هناك نوعان من الناس أعني في مسألة الكسب: الغنى المطغي، والفقر المنسي، فالغنى المطغي الذي يجعل الغني يزداد به طغياناً وكبراً، ويزداد انشغالاً، ويصبح رجل أعمال، فهو شخص مهم للغاية فلا بد أن يكون مشغولاً على الدوام، ولا يعرف وقتاً للبيت، ولا يعرف وقتاً لأن يجلس مع أبنائه أو ذريته، فينام بضع ساعات فقط في اليوم، أو ست ساعات، أو خمس ساعات والباقي في العمل، ولا يعرف شيئاً إلا عن لذته وشهوته ورغباته بعد ذلك.
والآخر: الفقر المنسي، والنظام الربوي اليهودي، والنظام الرأسمالي من أهدافه أن يزداد الغني غنى؛ لأن أصل هذا النظام مبني على الظلم والاحتكار والتسلط بالأموال الربوية على الآخرين؛ فهم أرادوا أن يكون الناس في الفقر المنسي، وهذا يثمر في الحقيقة الثمار المرة فينا، وليس معنى ذلك أن أطلب من الناس أن يتوقفوا عن الكسب ويتركوا الأعمال، لا والله، ولكن البركة في الوقت من الله عز وجل، كما أن البركة في المال والبركة في الصحة من الله عز وجل.
وهذا الأمر أعني: مخططات الأعداء في ذلك تثمر في ألا يجد الإنسان وقتاً نهائياً، وتظهر آثاره السلبية فيمن هو بعيد عن الله، وفيمن لم يتق الله، وأما العلاج لذلك فهو تقوى الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فغياب الإنسان وعدم جلوسه مع من يربيه إنما هي بسبب قلة التقوى، وبسبب البعد عن الله، فتجد الإنسان كسبه إما بين هذا وذاك، فلا يجد الكفاية التي تكفيه إلا أن يكون منشغلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تتباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).
أي: أن التباعد عن الله يكون سبباً في ملء القلب فقراً، ولو أنهم فرغوا بالهم وإرادتهم ونيتهم كانت عبادة لله عز وجل -وإن سعى الإنسان في أمور الدنيا بما أحل الله عز وجل- فلن تكون هذه الفتنة التي تجعل الإنسان لا يعي ولا يدري ما يدور حوله، وإنما يسير في ساقية مثل ثور وضعوه في ساقية لا يدري أين يذهب، وربما تعب من كثرة المشاوير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه بالضبط حياة الناس اليوم، وربما أمريكا واليابان والشرق والغرب كلها لا تجد فيها غير ذلك، إنسان موضوع في ساقية يعمل ويكد ويتعب ليصل إلى أقصى درجة التعب، ليرجع منهكاً يقضي أوقاته الباقية كما يقضيها الناس، وذلك في مشاهدة أجهزة الإفساد، ولا أجد مقهى إلا وهي ممتلئة في جميع الأوقات، فأنت كلما مررت وجدت شخصاً يلعب الطاولة، وآخر يتفرج على التلفاز وأفلام الفيديو، والسينمات كذلك مليئة، ومن أنشط المحلات تجارياً محلات الفيديو؛ فإنها تؤجر الشرائط بما لا حصر له، فماذا يبقى إذاً للتربية؟ ماذا يبقى للجلسة الخاصة؟ هذا هو الذي يريده الأعداء، تدمير رهيب جداً، فتجد الأب فيما تبقى من الوقت يشاهد فيه التلفاز هو وأولاده كالبله تماماً، يتشربون كل ما يلقى عليهم من أنواع الفساد، نعوذ بالله من ذلك.
ونجد نحن ضغطاً رهيباً على أبنائنا عند نصحهم؛ لأنهم يريدون أن يلعبوا كما يلعب الناس، وأن يتفرجوا كما يتفرج الناس، فالمسألة خطيرة بلا شك، ولكن والله إن بتقوى الله سبحانه وتعالى تحل هذه المشكلة، فمزيد من القرب من الله والتوجه إليه والتفرغ لعبادته سوف يحل هذا الإشكال بإذن الله، ويجد الإنسان وقتاً يجلس فيه مع من يربيه، وهذه الوسيلة أطلت فيها الكلام؛ لأنها وسيلة ضرورية، ولا بد أن توجد فينا سواء على المستوى الشخصي في الأسرة أو على المستوى الدعوي في المسجد، وعلى مستوى التعليم في من هو مسئول عن غيره، لا بد أن يوجد مثل هذا الحوار، ولا بد أن توجد مثل هذه الجلسة التي يتكلم الناس فيها مع بعضهم، مع من يربونه، يتكلمون فيها بقلب مفتوح، ويتلقون فيها الوعظ والتذكير بالله عز وجل.