شدة بلاء الأنبياء

قال عز وجل: ((وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)) ضاق صدره عن تحمل ذلك، ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ))، ثلاث جمل كل منها تبين الحالة التي كان عليها رسول الله لوط عليه السلام، وإذا أصابك ما يسوءك من إجرام المجرمين وظلم الظالمين فتذكر حال أنبياء الله عز وجل، وإذا ضاق صدرك بما يقع من الفساد في الأرض والظلم والعدوان والكفر والشرك فتذكر أيضاً حال الأنبياء، وافعل ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو خيرة الله من خلقه محمد عليه الصلاة والسلام، فلقد كان يضيق صدره أحياناً كما قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97 - 99].

فكثرة التسبيح وكثرة السجود وعبادة الله بما تقدر عليه حتى يأتيك الموت هو الذي يجب أن تفعله عندما يضيق الصدر، والله عز وجل قد بين من حال نبيه عليه الصلاة والسلام أنه وصل به الحال أنه باخع نفسه أي: يكاد أن يهلك نفسه صلى الله عليه وسلم.

فانظر إلى الحال الشديد واليوم العصيب الذي مر به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإذا كان الأمر كذلك هان عليك ما ترى وما تجد واتسع صدرك بعد الضيق، والله سبحانه وتعالى أمر بالصبر والاحتساب كما قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:125 - 128].

فبالتقوى والإحسان يكون الله عز وجل مع الطائفة المؤمنة المتقية المحسنة وينصرها، فيزول الضيق بعد حصوله، وإنما قدر الله ما يسوء الأنبياء والمؤمنين ليكونوا أسوة صالحة، فهذه حكمته؛ ولأن هناك أنواعاً من العبودية لا تحصل إلا بوجود الضيق.

((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ)) أي: يسرعون، وهو مبني للمجهول فكأنهم يُدفعون دفعاً، وذلك أن المرأة خائنة العقيدة امرأة لوط العجوز التي تقدم علاقات قومها على الدين وعلى الحق، وعلى علاقتها بزوجها، وعلى العفة والطهارة التي يريدها زوجها للمجتمع كله؛ قدمت علاقاتها القومية مع قومها ورضيت بفعلهم، وكان ذلك من آيات الله فيما يتعلق بقضية الولاء والبراء إذ إنها تبرأت من زوجها ووالت قومها فانعدمت العلاقة الزوجية التي بينها وبين زوجها في الأثر، ولم تنج وإنما أصابها ما أصاب قومها، فقد صعدت فوق سطح المنزل وأشارت إلى قومها بالحضور مسرعين، ونادتهم: أنه قد جاء لوطاً عليه السلام أضياف ما رأت أحسن منهم صورة.

دافع لوط عليه السلام عن الأضياف وحاول أن يردهم، وعرض عليهم بناته للزواج، وهذا أصح الأقوال، وبنات لوط عليه السلام هن بناته ولسن بكافرات، ((قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)) أي: من رغبة، ((وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)) ما نريد إلا الرجال.

فلما وقفوا ببابه وهو يدافعهم ويحاول ردهم وهم يحاولون الدخول عنوة على الأضياف لانتهاك حرماتهم فيما يظنون وما يتوهمون لما هم فيه من السكرة، قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام مخبراً عن حال قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] أقسم الله عز وجل بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، والله يقسم بما شاء من خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى جعل في خلقه آيات قدرته وعزته، فأقسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وبقائه على أن قوم لوط في سكرتهم يضلون ويتحيرون ويترددون، إنه سكر الشهوة والمعصية التي تعمي القلب وتغلقه والعياذ بالله، وتجعله لا يرى.

على الرغم أن هلاكهم بعد ساعات ولكنهم لا يريدون إلا الشهوة المحرمة، وهذه طبيعة الشهوة تجعل الإنسان يلهث وراءها إلى آخر عمره.

قال عز وجل عن لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، استحضر لوط عليه السلام ضعفه وأنه ليس له عشيرة إنما أتى مع إبراهيم مهاجراً إلى هذه القرية، وتزوج منهم ولم يكن له منهم عشيرة، ولم يكن له منهم أقارب ينصرونه؛ وقد عوتب على استحضار هذا المعنى في تلك اللحظة، وذلك أنه كان ينبغي أن يستحضر إيواؤه إلى الله عز وجل الذي هو أعظم وأقوى وأكبر من كل شيء سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد).

يعني الله عز وجل، فعندها كشف الأضياف حقيقتهم فقالوا: ((يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ))، المنازل الأعلى في كمال التوكل كحال النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة في الغار حين قال له صاحبه أبو بكر: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا).

وحال إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار حيث يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.

وحال موسى حين قال له قومه وأصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015