إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:159 - 168].
يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
ذكر الله تعالى هذه الآية بعد أن ذكر سبحانه وتعالى منته على المؤمنين بما وضع في قلبه عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللين والشفقة على المؤمنين وعدم الفظاظة والغلظة، وهذه -في الحقيقة- أوامر لكل إمام وقائد وكبير ومعلم وصفات لازمة له، وأمره عز وجل بالعفو والاستغفار للمؤمنين، وبالمشاورة في الأمر، فبين سبحانه وتعالى بهذا ما يلزم أن تكون عليه الجماعة المؤمنة، وما يلزم أن يكون عليها قادتها، وهذا من أعظم أسباب نصرها، فالله عز وجل ينصرها إذا وفت مقامات العبودية حقها، وهو -عز وجل- وعد وبين أن نصره لهم الذي إذا حدث لم يغلبهم أحد إنما يقع إذا نصر الله، فقال في الآية الأخرى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وهنا قال: ((إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ)) فمهما اجتمع على هذه الأمة من أحزاب الأرض كلها فإنه إذا نصرها الله عز وجل فلن يقدروا على هزيمتها، فهذه الأمة لها في معاركها مع أعدائها صفات وموازين خاصة، وأمة الإسلام عموماً والطائفة المؤمنة في صراعها مع طوائف الكفر والباطل لها قواعد وموازين خاصة، فليست تعتمد على كثرة العدد والعُدَد، فإن الله عز وجل إذا نصر قوماً فلا غالب لهم، وهو عز وجل ينصر أهل الإيمان بنصرهم لله عز وجل وإقامتهم لأمره، وبنصرهم لدينه سبحانه وتعالى، وذلك أن نصرتهم له عز وجل -وهو الغني الحميد، وهو الغني عن العباد- إنما المقصود بها أن يُنصر دينه، وأن يُنصر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا نصروا دين الله نصرهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة).
وكما جاء في الحديث (وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً).
فقد أعطاه الله لأمته ألا يهلكهم بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطار وجوانب الأرض ونواحيها كلها، لكن إذا سبى بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً فعند ذلك يسلط الله عز وجل عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ويأخذ بعض ما في أيديهم.
والمقصود: أن الله عز وجل إذا نصر أهل الإيمان فإنه لا يغلبهم أحد؛ لأنه هو عز وجل نعم المولى ونعم النصير، والأمور بيده سبحانه وتعالى.