لعلك -يا عبد الله- تنظر إلى من هو دونك، ولعلك تنظر إلى فلان لا هم له في الدعوة إلى الله؛ إلا أن يجلس في مكتب من المكاتب، فيوقع ورقة، ثم يذهب إلى البيت، ويظن أن هذه هي غاية الدعوة إلى الله، لا بأس، لقد عملت شيئاً لله، ولقد فعلت في سبيل الله، لكنها ليست غاية الدعوة إلى الله، غاية الدعوة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
اسمع إلى قصة حبيب رضي الله عنه، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة إلى مسيلمة، فذهب إلى مسيلمة وأعطاه الرسالة، فغضب مسيلمة، وزمجر وأرعد، فقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أتشهد أني رسول الله؟ -وخسئ- فقال مستهزئاً به: إن في أذني صمماً، فربطه وأتى بالجلاد، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إن في أذني صمماً، فقال للجلاد: اقطع منه طرفاً، فقطع جزءاً من جسده، فتدحرج، والدم يسيل منه.
قال: تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً، فقطع منه قطعة أخرى، فلا زال يكرر إن في أذني صمماً، أشهد أن محمداً رسول الله، حتى أصبح قطعاً متناثرة على الأرض، وزهقت روحه وهو يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله
هكذا تكون غاية الدعوة إلى الله، أن تضحي بنفسك وبمالك في سبيل الله، وأن تضحي بوقتك في سبيل الله.
ثم إن أمه تسمع بالخبر، فما تظنونها تقول؟ وما تظنونها تفعل؟ قالت: لهذا أعددته وعند الله احتسبته، بايع رسول الله صغيراً ووفى له كبيراً.
وأمه لم تكتفِ بهذا، بل تكون مع المسلمين في تلك المعركة التي يقتل فيها مسيلمة، فبعد أن تنقضي المعركة، ويهزم أعداء الله، تأتي أم حبيب وتبحث في القتلى، فإذا بها تنظر إلى مسيلمة، مثخناً بالجراح، قد أزهقه المسلمون بالضرب، وزهقت روحه إلى الله.
حبيب في جنة الله، أما مسيلمة فهو في لعنة الله، أم حبيب تنظر إليه، فماذا تفعل؛ تفرح وتستبشر، هذا هو المصير: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].