نستشغر في هذه المواطن التواضع لله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة، ويقول بعض أصحابه: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يرمي جمرة العقبة، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
أي: لا توسع له الطرق، ولا يضرب الناس ولا يطردون الناس من أجله صلى الله عليه وسلم، بل كان يمشي عليه الصلاة والسلام متواضعاً مع الماشين، لا يطرد الناس من حوله، ولا يضرب الناس من أجله، إنما يأتي وقوراً متواضعاً لله خاشعاً له، يرمي الجمرة كما يرميها الناس، منه يتعلم الناس وبه يقتدون، ويلتمسون منه التواضع، يلتمسون منه صحيح العبادة والنسك، فيمتثلون أمره، ويقتفون أثره عليه الصلاة والسلام.
فنلتمس من رسولنا التواضع، وعدم الزحام، وعدم أذى العباد، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يطوف بالبيت، فإن استطاع أن يستلم الحجر بيده فعل ولا يزاحم، وإن لم يستطع أشار إليه بمحجنه ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، لا يزاحم الناس ولا يؤذيهم، وعند دفعه صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى مزدلفة كان الناس يتسارعون ويتسابقون فعلمنا صلوات الله وسلامه عليه هدياً في ذلك فقال: (أيها الناس! عليكم هدياً قاصداً، أيها الناس! السكينة السكينة -أي: الزموا السكينة- ليس البر بالإيضاع) أي: ليس البر بالإسراع وإنما الزموا السكينة، (كان يمشي بوقار وإذا وجد فجوة من الفجوات أسرع ونط) أي: قفز عليه الصلاة والسلام، فلم يكن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يزاحم ولا يلقي بيديه إلى التهلكة.
وقف صلى الله عليه وسلم في عرفات الصخرات وقال: (وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف)، ووقف عند المشعر الحرام بمزدلفة وقال: (وقفت هاهنا، وجمع كلها موقف)، مر عليه الصلاة والسلام في طريقه من مزدلفة إلى منى بوادي محسر فأمر أصحابه بالإسراع وعدم التباطؤ عند هذا الوادي، فلماذا ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن المكث في وادي محسر، ويأمرهم بالإسراع عند المرور به؟ قال علماء السير: إن وادي محسر هو: الوادي الذي عذب عنده أبرهة الحبشي، ومنع من دخول الحرم، وهنالك أرسلت عليه طيراً أبابيل، ترميه وأصحابه بحجارة من سجيل، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف في هذا الوادي وهذا الوادي يقع على مشارف منى من ناحية مزدلفة.
ومن ثم ينبغي ألا يمكث الحجيج في هذا الوادي الذي نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن المكث فيه، والإطالة فيه، فعنده أهلك أبرهة، وكان الفيل قد حبس فامتنع من دخول مكة، وكان أبرهة متجهاً إلى مكة من ناحية عرفات، فإنه قدم من اليمن ومر بالطائف، وكان يريد دخول مكة من ناحية عرفات، فامتنع الفيل عن الدخول، وكان الفيل يضرب بالحديد كي ينهض ويدخل مكة فيأبى إباءً شديداً أن يدخل مكة، وهذا من قضاء الله وتدبيره أن تمتنع هذه الدابة من دخول مكة.
ولذلك لما قدم رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يريد دخول مكة، وعلا مشارف مكة امتنعت ناقته القصواء من دخول مكة، فكان الناس يضربون ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تسمى القصواء كي تدخل مكة، والناقة لا تتحرك! فقال المسلمون: خلأت القصواء وليس ذاك لها بخلق، أي: لا ينبغي أن تمتنع القصواء من دخول مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلا والله.
والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) أي: حبسها الله من دخول مكة، ثم دخل عليه الصلاة والسلام مكة عليها، وأمر أن يدخل مكة من طريق معينة، وتذكر عليه الصلاة والسلام وهو داخل مكة مقولة حسان بن ثابت عندما أخرج من مكة، فقال أبياتاً من الشعر يتصبر بها: فقدت بنيتي إن لم تروها تثير النقع مطلعها كداء أي: فقدت ابنتي -يا معشر المشركين- إن لم تروا خيلنا ترجع إليكم غازية لكم، وتثير الغبار متجهة لكم من كداء، تذكر النبي صلى الله عليه وسلم مقولة حسان تلك فامتثلها ودخل من ناحية كداء فاتحاً مكة، صلوات الله وسلامه عليه.
كل هذه المعاني نتذكرها ونحن داخلون إلى مكة، فهي معان ينبغي أن نتذكرها، ثم نهتدي بها، كما قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]، نأخذ من الحج الامتثال لأمر الله، فنحن نرمي الجمرات، وما ندري لماذا نرميها؟ وما ندري لماذا نرميها بسبع؟ ورد أثر لذلك، أنه لرمي إبراهيم الشيطان، إلا أن الأثر ليس بمرفوع إلى الرسول عليه السلام، ونرمي الجمرات، ولا ندري لم نرم، ونطوف لا ندري لم نطوف سبعاً ولا نطوف تسعاً، والحكمة الامتثال لأمر الله، والامتثال لهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام.