أذكر موقف الصديق رضي الله عنه يوم أن عزل أبا عبيدة بن الجراح، وأنتم تعرفون من هو أبو عبيدة؟ إنه أمين هذه الأمة، القائد الفارس البطل المغوار، ومع ذلك رأى الصديق أن الموقف يحتاج إلى خالد بن الوليد؛ فعزل الصديق أبا عبيدة، وولى القيادة في جبهة الشام خالد بن الوليد، وأرسل رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال: (من أبي بكر إلى أبي عبيدة، سلام الله عليك.
وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله! ما وليته إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خير منه!) هذه هي الأمة، أمة تقدم الأكفاء في الساعة المحددة، وكلنا يعرف قدر أبي عبيدة، لكن الصديق رأى أن رجل الساعة هو خالد، فليتقدم خالد، وتقدم خالد لا ينقص أبداً من قدر أبي عبيدة؛ لأن الموقف يتطلب أن يتقدم خالد بن الوليد، هذا هي الأمانة.
ومن أجل ذلك أذلوا كسرى، وأهانوا قيصر، وأتى هؤلاء بتاج كسرى بن هرمز فوضعوه في حجر فاروق الأمة عمر رضي الله عنه وأرضاه.
إنها أمة قدمت الأكفاء لكل موقع وفي كل وقت، وأخرت من ينبغي أن يؤخر مع عظيم فضله، ومع سبقه في الإسلام ودين الله تبارك وتعالى، فتأخيره لا يقلل من قدره، ولا يقلل من إيمانه، المهم أن يظل في الصف ليعمل لله جل وعلا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) والحديث في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، فهذا رجل لا يريد أن يكون في الصدارة مع القادة، المهم أن يكون في الجند المخلصين ممن يعملون لدين الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يريد عهراً سياسياً ولا طبلاً ولا زمراً إعلامياً، إنما يريد أن يرضي ربه تبارك وتعالى من منطلق قول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل يا أرحم الراحمين! فأمة تقدم الأكفاء هي أمة أمينة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً معيناً لمحسوبية أو لعنصرية بغيضة أو لرشوة أو لهوىً أو لدنيا فهي أمة خائنة، خانت الله ورسوله، وضيعت الأمانة، كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
والله تبارك وتعالى يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
فأهل النفاق هم الذين يصدون عن الله ورسوله، ويخونون الله ورسوله، وأهل الإيمان هم الذين يمتثلون أمر الله، ويؤدون فرائض الله، ويمتثلون سنة رسول الله، ويؤدون الأمانة فيما بينهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
أما الخيانة على مستوى الأفراد فأرجئ الحديث عنها إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.