الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: وأخيراً: خيانة على مستوى الأفراد، والحديث عن هذا العنصر حديث يؤلم القلب بألم الخيانة، فالكلمة أمانة، وكم من هذه الأمانة من الكتاب والأدباء والمفكرين والعلماء والمسلمين، فبكلمة تنال رضوان الله، وبكلمة تنال سخط الله، وبكلمة تدخل جنة الله، وبكلمة تدخل نار الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وقد ذكرت من قبل لو أن المسئولين الآن أعلنوا على شاشات التلفاز وفي كل وسائل الإعلام أنه يجب على كل مواطن من رجل وامرأة أن يسرع إلى أقرب قسم شرطة ليركب جهازاً ليسجل عليه كل كلمة من الكلمات، وسيمنح جنيهاً على كل كلمة ذكر وتسبيح وتهليل، وسيعاقب عقوبة يراها المسئولون على كل كلمة ليست طيبة، وانطلق الناس وركبوا هذه الأجهزة، فكيف يكون حالنا؟ والله! لن نتكلم إلا بالتسبيح، ولن نأكل إلا التسبيح، ولن نشرب إلا التسبيح، ولن ننام إلا على التسبيح؛ لأننا سنأخذ على كل كلمة جنيهاً!! ولو قلت لأحد: كيف حالك يا فلان؟! لقال: سبحان الله! ولو قلت: ماذا فعل ولدك في الثانوية؟ لقال: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولو قلت: هل قبضت العلاوة؟ لقال: الله أكبر، ولله الحمد!! والله جل وعلا يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، فهل صدقنا الله؟ وهل صدقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! الجواب يؤكده الواقع المر الأليم: فقد يتورع الصائم عن أكل الحلال ولا يتورع عن الفري في أعراض الأحياء والأموات، أي: في الوقوع في الحرام، فالكلمة أمانة، ولو عرف الكتاب والأدباء والمفكرون والعلماء والمتكلمون قدر هذه الأمانة ما رأينا هذا الواقع المر الأليم: فبدعوى الإبداع الفكري سبوا الله ورسوله! وبدعوى الحرية الشخصية أصلوا للرذيلة والتبرج والعري! وبدعوى التخلص من عقدة القديم تمردوا على سلطان الدين بكلمات خائنة! فالكلمة أمانة، والعلم أمانة، فإن اتقى العالم ربه وأدى ما يدين به لله بحكمة بالغة فهو أمين، وإن زور بهذا العلم الفتاوى لذوي السلطان فهو خائن، قال صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار، ومن تعلم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار).
والمجالس أمانة، فقد يجلس المسلم مع أخيه ويخرج بعد ذلك لينقل كل ما دار بينهما في المجلس، من فعل هذا فهو خائن؛ إنما المجالس بالأمانة، فكم من الناس من قد خان هذه الأمانة! وكم من زوج قد خان زوجته! وكم من زوجة قد خانت زوجها! وأقصد: الخيانة العفنة المعروفة بالزنا، وكذلك خيانة الكلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد -: (إن من أشر الناس يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) لاسيما إذا كان السر متعلقاً بأسرار الفراش، فيجلس على المقهى أو بين زملائه في الوظيفة ليحدث بكل ما دار بينه وبين امرأته في الفراش، أو تجلس المرأة الموظفة لتحدث زميلاتها في العمل بما دار بينها وبين زوجها في الفراش، وهذه خيانة عفنة.
والأولاد أمانة، فكم من الآباء من قد خان هذه الأمانة! وكم أم قد ضيعت هذه الأمانة! فترك الوالد أولاده، وظن أن وظيفته أنه ممثل لوزارة المالية فحسب! فإن وجد عنده رمق من الوقت قتله قتلاً بالجلوس أمام التلفاز، مع أنه لو جلس بين أولاده ولو كان صامتاً لا يتكلم ففي جلوسه من عمق التربية ما فيه، فكيف إن تكلم فذكّر بالله ورسوله؟! وكيف إن تكلم فأخذ أولاده إلى بيت من بيوت الله، أو إلى مشهد من هذه المشاهد التي تملأ القلب بالاستعلاء وبالإيمان وبالعزة التي افتقدتها الأمة منذ أمد بعيد؟! وكم من أم خانت الأمانة فضيعت أولادها؛ وذهبت إلى الوظيفة، وهي ليست في حاجة إلى الوظيفة، وخرجت إلى الأسواق لتضيع الوقت، وهي ليست في حاجة إلى هذا، كل همها أن تبحث عن الموضات والموديلات! وضيعت الأولاد، وأصبح الأولاد كما قال الشاعر: فليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في همّ الحياة ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا والوظيفة أمانة، فكم من الموظفين من قد خان الأمانة بدعوى أن الراتب لا يتلاءم ولا يتواءم مع الجهد الذي يبذله! فيخون الأمانة بأخذ الرشاوى، أو بتضييع العمل مع حاجة العمل إليه، أو بالتعسير على المسلمين وتعطيل مصالحهم.
والدَين أمانة، فكم من الناس من قد أخذ أموالاً ثم تفنن بعد ذلك في أكل هذه الأموال، وفي خيانة هذه الأمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس ينوي أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله).
وكم عدد هؤلاء الذين نصبوا على المسلمين فأخذوا أموالهم وهربوا بجوازات سفر مزورة! وقد خانوا الأمانة، وضيعوا حقوق الناس.
وكم عدد هؤلاء الذين نهبوا البنوك بل ونهبوا الدولة، بل ونهبوا الأمة، وخانوا الأمانة، وأكلوا أموال الناس بالباطل! ولو وقفنا مع جزءيات الخيانة على مستوى الأفراد لطال الوقت جداً، وحسبنا قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
اللهم اجعلنا من أهل الأمانة، اللهم اجعلنا أهلاً للأمانة، اللهم رد الأمة إلى الأمانة رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الأمانة رداً جميلاً.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباًَ إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.