ثالثاً: خيانة على مستوى الأمة: أقول بملء الفم وبأعلى الصوت: ما خان الغربي إلا يوم أن تخلت أمة الأمانة عن الأمانة، وما تولى الرجل الغربي قيادة العالم وقيادة الأمة إلا يوم أن وقعت الأمة في الخيانة؛ فلقد خانت الأمة ربها ورسولها، وأنا أعي كل لفظة أرددها، لقد خانت الأمة ربها ورسولها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تخونوا الله بترك فرائضه، ولا تخونوا الرسول بترك سنته، ولا تخونوا أماناتكم بتضييعها).
وقال ابن عباس في موطن آخر: (الأمانة هي: الفرائض التي افترضها الله على عباده).
وقال أبو العالية: (الأمانة هي: ما أمروا به، وما نهوا عنه).
وقال الحسن: (الأمانة هي: الدين، فالدين كله أمانة).
فهذه الأمانة حمل ثقيل، وقد أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها، وخافت من عواقب التفريط في حمل هذه الأمانة، قال عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] قال العلامة القرآني الشنقيطي في (أضواء البيان): والعرض والإباء والإشفاق كله حق، وليس على سبيل المجاز، وإنما على الحقيقة؛ فلقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكاً لا يعرف حقيقته إلا الله، أدركت المخلوقات بهذا الإدراك ثقل هذه الأمانة، فأبت وأشفقت من حملها، والأدلة على ذلك في القرآن كثيرة، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
فالأمانة حمل ثقيل، فالدين كله أمانة، وأشفقت هذه المخلوقات من حمل هذه الأمانة، وتقدم الإنسان الضعيف القصير العمر الذي تتحكم فيه الأهواء والشهوات والشبهات لحمل هذه الأمانة، فمن أدى فرائض الله، وأدى سنة رسول الله، وأدى الأمانة التي عنده؛ فهو الأمين الذي عرف قدر الأمانة، ومن فرط فهو الخائن الذي خان الأمانة.
فلا تخونوا الله بترك فرائضه، ولا تخونوا الرسول بترك سنته، ولا تخونوا أماناتكم بتضييعها فيما بينكم، وكم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام قد ضيعوا الفروض من أجل مباراة في إستاد كرة، بل قد تضيع الجمعة، وربما تضيع صلاة الفجر إن كانت المباراة منقولة في آخر الليل، فتضيع الفرائض من أجل هزل!! لقد خانت الأمة ربها فضيعت الفرض إلا من رحم ربك من أفراد، وخانت الأمة رسولها فهجرت السنة، فالأمة تتغنى وترقص لرسول الله في الثاني عشر من كل ربيع في قصائد منسقة منمقة، وفي كلمات رنانة، في الوقت الذي هجرت فيه السنة، ونحت فيه الشريعة، بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي على هذه الأمة: هلموا إلينا، هلموا إلى القرآن والسنة، لكن من أفراد الأمة من يرد الآن بلسان الحال، بل بلسان المقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: لم يعد شرعك صالحاً لمدنية القرن الحادي والعشرين، ولم تعد شريعتك صالحة لعصر الإنترنت! وأتوبيس الفضاء دسكفري! وصارت الأمة تنظر إلى السنة والشريعة على أنها لم تعد صالحة.
خانت الأمة ربها ونبيها، وضيعت الأمانة يوم أن وسدت الأمر إلى غير أهله، وهذا هو تفسير نبينا لتضييع الأمانة كما في صحيح البخاري أنه كان صلى الله عليه وسلم يحدث الناس يوماً، فجاء أعرابي فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يجب الأعرابي، فلما قضى النبي حديثه سأل عن الأعرابي وقال: أين السائل عن الساعة آنفاً؟ فقال الأعرابي: ها أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي الفقيه: فكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله) ووالله! لقد وسد الأمر إلى غير أهله، فمن الذي يشكل العقول الآن؟! ومن الذي يدير دفة التوجيه والحكم في الأمة؟ لقد صرنا كما قال الشاعر: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب وفي مستدرك الحاكم ومسند أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
لقد صار المثل الأعلى لأولادنا لاعب كرة، أو فناناً من الفنانين، صار المثل الأعلى لكثير من أولادنا هم هؤلاء، وقدم هؤلاء على أنهم المثل، وعلى أنهم القدوات، حتى لا يخرج الولد ليفكر في الجهاد أو ليفكر في العلم، ووسد الأمر إلى غير أهله، فمن الذي تصفق لهم الجماهير المخدوعة؟! ومن الذي تذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم جميع الأبواب؟! هذا، وكثير منهم يجب أن يقام عليه حد الله جل جلاله، ولكن الأمة الآن قلبت الموازين، ووسدت الأمر إلى غير أهله، ووقعت في الخيانة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله).
إنها خيانة بتضييع الفرائض، وخيانة بالتفريط في السنة، وتغييب الشريعة، وخيانة بتضييع الأمانة وتوسيد الأمر إلى غير أهله، فأمة لا تقدم الأكفاء أمة خائنة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً للمحسوبية أو للعنصرية البغيضة أو للعصيبة الجاهلة؛ أمة خائنة لا تستحق السيادة ولا العزة ولا الكرامة.