الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
أيها الإخوة: درسنا هو غربة الإسلام الثانية وشدني إلى هذا الموضوع هو ما نعيشه في مراحلة الاستضعاف، التي نرى فيها الدين قد أصبح غريباً بين كثيرٍ من الناس في العالم، وحملته بين مطارد ومضطهد في كثير من أنحاء العالم، ولكن الله سيتم هذا النور، وسيعلي هذه الكلمة -ولابد- كما وعد عز وجل.
ونحن نريد أن نلقي الضوء على مزيد من ملامح هذه المرحلة مرحلة الاستضعاف، الوقت الذي لا يكون فيه لحملة الإسلام كلمة مسموعة إلا فيما ندر، وفي الوقت الذي يحيط فيه أعداء الإسلام ويتربصون بالمسلمين من كل جهة، لابد على المسلم في هذه المرحلة أن يعرف واجبه، وأن ينظر ويتبصر في طبيعة هذا الزمن وهذا الوقت الذي يعيش فيه، لذلك كان عنوان هذا الدرس (استعينوا بالصبر والصلاة).
إنه توجيه مناسب جداً للمسلمين الذين يعيشون في هذا الوقت، إنها أوامر إلهية تناسب طبيعة الحال تماماً، وهي ما نحتاجه فعلاً في هذا الزمن، (استعينوا بالصبر والصلاة) {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128]، وقصة هذه الكلمة (استعينوا بالله واصبروا) عظيمة، عندما أرسل موسى لبني إسرائيل، نظر الله إلى بلاد مصر في ذلك الزمان، فإذا بها تحت هيمنة فرعون الطاغية، والله سبحانه وتعالى يعلم أن فرعون سيأتي قبل أن يخلق السماوات والأرض.
وبعث الله موسى لإنقاذ هؤلاء المستضعفين من بني إسرائيل، لكي يُعدوا لخلافة الطغاة المتجبرين المتكبرين، وأرسل إليهم موسى عليه السلام، فصدع بالحق، وبيّن الرسالة، ودعا فرعون وقومه إلى الله عز وجل، وجمع بني إسرائيل، وحاول بكل ما أوتي من قوة أن يقودهم وأن يربيهم، وأن يعدهم لوقت النزال الذي تكون فيه المعركة قد قامت بين فرعون وجنده، وموسى ومن معه من المؤمنين.
قال الله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] سبحان الله! قوم فرعون الملأ الطغاة، يقولون لفرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وهل كان موسى مفسداً في الأرض؟ وهل كان قومه المستضعفون يستطيعون أن يفسدوا في الأرض؟ ولكن هذه طبيعة الملأ، وبطانة السوء، وحاشية الفساد، نفخوا في فرعونهم، فقالوا له ليستفزوه ويستحثوه ويوغروا صدره على موسى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] قيل: إن فرعون كان يعبد آلهة، ذكر بعض المفسرين كما في تفسير ابن كثير، أنه كان يضع عقداً في عنقه يعبده، وقال بعضهم: إنه كلما رأى بقرة جميلة حسنة دعاهم إلى عبادتها.
ولهذا السبب صنع بعد ذلك السامري العجل؛ ليلهي به بني إسرائيل عن التوحيد ويشغلهم بعبادته عن الله.
وعلى أية حال: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] وفي قراءة: {وَيَذَرَكَ وَإلِهَتَكَ} [الأعراف:127] أي: عبادتك؛ لأنه كان يأمرهم بعبادته، فماذا كان رد فرعون؟ قال: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] هذا التأكيد الثاني؛ لأنه كان قد شرع فعلاً في استحياء نساء بني إسرائيل وقتل أولادهم، ولكنه الآن يشدد ويؤكد على المسألة أنه سيفعل ذلك أيضاً مرة أخرى، وهذا هو التأكيد الثاني كما قال ابن كثير رحمه الله، {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127].
وفي خضم هذه المحنة، وفي أتون هذه الأزمة والشدة التي يواجهها بنو إسرائيل قال موسى لقومه! كيف تكون المواجهة؟ أناس عزل ضعفاء ليس عندهم شيء، وفرعون عنده كل القوة والسيطرة والهيمنة والبطش والإرهاب قال فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، فماذا سيفعل العزل؟ ماذا سيفعل هؤلاء المساكين؟ وموسى المؤيد بالوحي من الله يملك الجواب، قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
لا أظن أن الواقع الذي نعيشه يحتاج للتعبير بأكثر من هذه الكلمات مما نحتاج إليه لمواجهة الواقع الجديد: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
أيها الإخوة: إننا لو فكرنا انطلاقاً من الموازين الأرضية والمقاييس الدنيوية، لا يمكن أن نأمل بنصرٍ للمسلمين، ولكن عندما نفكر انطلاقاً من السنن الربانية والموازين الشرعية؛ فإنه لابد أن نثق بأن الله سينصر الدين مهما كان أبناؤه ضعفاء قال الله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
أيها الإخوة: إن موسى وبني إسرائيل كانوا لا يملكون سلاحاً مماثلاً لسلاح فرعون أبداً، ولا جنداً يماثلون جند فرعون مطلقاً، ولما تحقق الأمر واستعانوا بالله وصبروا، وجعلوا بيوتهم قبلة، وصاروا يعبدون الله، كافأهم الله عز وجل بأن أغرق فرعون ومن معه، ونصر موسى ومن معه عليهم، بأن ابتلع البحرُ فرعونَ ومن معه.
وإنا لو صدقنا الله، وعبدناه، واستعنا به، وتوكلنا عليه، فلابد أن يرسل الله من نقمته وعذابه على الكفار ما يهلكهم ويشرد بهم، ويجعلهم عبرة للأمم القادمة.
فماذا قال بنو إسرائيل لموسى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129] قالوا: نحن نتعرض للأذى قبل أن تأتينا يا موسى ومن بعد أن جئتنا، لم يتغير شيء، قال موسى يصبرهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129].
وكأن موسى يقول لبني إسرائيل: لو جاءكم يوم انتصرتم فيه وملكتم الأرض، فلابد أن تفوا بما عاهدتم الله عليه؛ لأن الله إذا استخلفكم فإنه سينظر كيف تعملون.
أناس في مرحلة الاستضعاف يقول لهم نبيهم: إذا انتصرتم وملكتم البلاد والعباد لابد أن تكونوا صادقين مع الله في تصرفاتكم؛ لأنكم ستكونون في حالة امتحان وابتلاء لكن من نوع آخر امتحان وابتلاء بالسراء بعد أن كنتم ممتحنين ومبتلين بالضراء.
أيها الإخوة! إننا لابد أن نترسم في هذه المرحلة عدة ملامح مرحلة الاستضعاف التي عاشها بنو إسرائيل مع موسى، وعاشها الضعفاء من قوم نوح مع نبيهم، والمسلمون من قوم شعيب مع نبيهم، ومن سائر الأنبياء الذين كان وراءهم مؤمنون اتبعوهم عاشوا مع أنبيائهم فترات استضعاف، وعاش المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فترة استضعاف ثلاثة عشر عاماً، ولكن الله نصرهم، وأذن لهم بالغلبة على عدوهم.
فما هي ملامح هذه المرحلة؟ وما الذي نحتاج إليه؟ وما الذي يجب أن نفعله؟ وما هو واجبنا تجاه الأزمة الحاضرة؟