الصوفية والتوكل

وقد زعمت الصوفية من هذا الحديث أن التوكل يقتضي أن الإنسان لا يعمل شيئاً، حتى لو هجم عليه أسد فلا ينزعج، ولا يسعى في طلب الرزق، والذي مكتوب سيأتي وقد أبى ذلك جمهور العلماء الفضلاء الموحدون، قالوا: إن هذا اعتقاد فاسد، وإن التوكل على الله هو: الثقة بوعده، واليقين بقضائه، وابتغاء الرزق بالأسباب مما لابد له منه، من مطعم ومشرب، والتحرز من عدو بإعداد السلاح وبإغلاق الباب من اللص ونحو ذلك، ولكن لا يطمئن قلب المتوكل على الله إلى الأسباب، ولا يعتقد أنها تجلب نفعاً أو تدفع ضراً، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل بمشيئته عز وجل، والله تعالى خلق الأسباب وخلق آثار الأسباب، وخلق المسببات، ولا يجري شيء إلا بمشيئته عز وجل، والذي يركن إلى الأسباب قادح في توكله على الله، والذي لا يتخذ أسباباً بالكلية جاهل بالتوكل على الله، يظن نفسه متوكلاً وهو ليس كذلك، فالأخذ بالأسباب أمر فطري ضروري حتى الحيوان يعرفه، والبهيمة تعرفه، والطير يسعى أخذاً بالأسباب، ويذهب في الصباح يبحث عن الدودة والطعام، والله يرزق الطير لتوكلها عليه (لو تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً -جياعاً- وتروح بطاناُ) تذهب في أول النهار جياعاً، وتعود ممتلئة البطن، وهي متوكلة على الله، لكن هل يجلس الطير في عشه ويقول: الرزق المكتوب لي سيقع علي من السماء؟! لا.

الطير يغدو، والغدو والرواح عمل وذهاب للبحث، لكن أفئدة الطير مليئة بالتوكل على الله، ولذلك الله يرزقها، ولن تجد طائراً يذهب ويعود من غير شيء، لابد أن يرجع بشيء، وهذا من توكله على الله، ففي هذا الحديث نتعلم من خلق الله من الحيوانات أشياء عظيمة، كما نتعلم التوكل من الطير.

إذاً: التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل لا بد من الأخذ بالأسباب، وكيف لا يأخذ الإنسان بالأسباب وقد جاء في الحديث الصحيح: (أفضل ما أكل الرجل من كسبه)، وكان داود يأكل من كسبه {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80]، والله عز وجل يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، ماذا يعني خذوا حذركم؟ يعني الانتباه والحراسة، وقسم الجيش نصفين: نصف يصلي، ونصف يراقب، هذه كلها أخذ بالأسباب، إذاًَ: التوكل على الله لا يعني أبداً ترك الأسباب، لكن التوكل على الأسباب هو المصيبة، والآن أكثر الناس يتوكلون على الأسباب؛ قلبه معتمد على الطبيب، وعلى الدواء، وعلى التخطيط للمشروع، والاعتماد على الله غائب، وهكذا لا يمكن أن يحدث تكسب إلا بتحسين السلعة ونقلها وبيعها وعرضها، ولا يمكن للإنسان أن ينفق على عياله إلا بالتكسب والسعي والأخذ بالأسباب، وهؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ليس معناه أنهم لا يتداوون، ولا أنهم لا يعملون شيئاً من الأسباب المشروعة، بل إنهم يتخذون الأسباب المشروعة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015