Q السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله.
ما هي الطرق التي تؤدي إلى لين القلوب؟ جزاكم الله خيراً.
صلى الله عليه وسلم باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأحَبَّكَ الله الذي أحببتني من أجله، وأُشْهِدُ الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم فيه، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بكم جميعاً في دار كرامته {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
أخي في الله: أنت تسأل عن الأسباب التي تلين القلوب! أعظمُ هذه الأسباب وأجلُّها: أن تسأل الله أن يرزقك قلباً ليناً، وأن تستعيذ بالله من القلب القاسي:- فإن الناس لضعف قلوبهم وعقولهم يظنون أن قوة القلوب هي الرجولة والفحولة؛ ولكن أقول: لين القلوب هو الرجولة الكاملة، والإيمان الكامل.
فسَلِ الله أن يعطيك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاءٍ لا يُسْمع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع).
سَلِ الله أن يعيذك من القلب القاسي، وسَلِ الله أن يرزقك قلباً ليناً رقيقاً رفيقاً بعباده، فإنه سبحانه وحده مقلِّب القلوب والأبصار، وهو وحده الذي يستطيع في لحظة واحدة وطرفة عين أن يقلِّبها فتصير أذل ما تكون لعباد الله المؤمنين، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
جعلنا الله وإياكم منهم.
اللهم آمين.
السبب الثاني الذي يعين على لين القلوب: كثرة ذكر الآخرة:- أن تتذكر أنها ستمرُّ عليك مثل هذه اللحظة وأنت ضجيع القبر والبِلَى، والله لَتَمُرَّنَّ عليك ولو بعد حين! وكم من ضاحكٍ منا قد نُسِجت أكفانُه وهو لا يدري! فكثرة ذكر الموت والدار الآخرة وقُرب المصير إلى الله يلين القلوب، ويجعل الإنسان في همٍّ وغمٍّ من الآخرة وحدها حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره.
أما السبب الثالث -وهو داخلٌ في السبب الثاني-: زيارة المقابر: زُرِ القبور، وقِفْ بين أهلها، وانظر إلى حال أغنيائها وفقرائها! إنهم جيرانٌ لا يتزاورون! وسكانُ لَحْدٍ وشِقٍّ منه يبعثون! ينادُون ولا مجيب! ويَسْتَعتبون ولا مُعْتِبٌ ولا مستجيب! قد زالت فوارقهم! وذابت أنسابهم! وصاروا إلى الرفات.
صاحِ هذه قبورنا تملأ الرحبَ فأين القبور من عهد عادِ؟! خفِّف الوطء! ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجسادِ انظر في الأمم التي مضت وانقضت وولَّت! كم بينها أناسٌ آكَلُوك! كم بينها أناسٌ شارَبُوك! كم بينها أناسٌ زاوَرُوك! كم بينها أناسٌ بينك وبينهم المودة والمحبة قد انقطعوا إلى الله، وصاروا إلى لقاء الله، وانقطعت عنهم الحيلة، وأصبحوا رهناء بما قالوا وما فعلوا! فمَن تذكَّرَ هذه المنازل هانت عليه الدنيا، وأصبح لَيِّن القلب يفكر في نجاته من لقاء ربه جل جلاله.
ومن الأسباب التي تعين على لين القلوب: زيارة المرضى وعيادتهم: واسمع إلى هذا يتأوه! واسمع إلى هذا يشتكي! واسمع إلى هذا قد كُسِرت ساقه! وهذا قد قُطِعت يده! وهذا قد كُفَّ بصره! وقل: الحمد لله الذي عافاني؛ لكي تحس أنك حقيرٌ ذليلٌ تحت سطوة الله جل جلاله، حتى يذهب الغرور الذي يرفع الإنسان عن قدره ومكانه، حتى تعرف من أنت تحت رحمة الله جل جلاله وسطوته ونقمته، فإن العبد تراه قوي البدن صحيح الجسم ما أن يبتليه الله بسقمٍ خفيف في عضو من أعضائه حتى يَخِرَّ كالميت مجندلاً يتأوه من سقمه ومرضه.
الله أكبر! ما أعظم سلطانه إذا أخذ! وما أعظم سلطانه إذا نزل! فهذا يلين القلب ويعرِّف الإنسانَ بقدره.
ومما يلين القلوب: زيارة الصالحين، وحب الصالحين، وغشيان حِلَق الذكر، فهم القومُ لا يشقى بهم جليس:- فلا تزال تزور حِلَق الذكر، وتسمعُ المحاضرات والندوات، حتى يُلَيِّن الله قلبك؛ لأن الوحيَ وكلامَ الله وكلامَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلامَ الصالحين وكلامَ الدعاة والهداة كالغيث للقلوب، يُلَيِّنها ذلك بإذن الله جل جلاله.
فأكْثِر من سماع الذكرى، وأكْثِر من سماع المواعظ، فإنها تقرِّبك إلى الله جل جلاله.
ومن الأمور التي تلين القلوب: البُعْد عن أهل الغفلة الذين يكثرون من ذكر الدنيا فإن عاشرتهم قسا قلبُك، وإن عاشرتهم نسيتَ ربَّك ولَهَوْتَ مع اللاهين، وجَرُّوك إلى ويلات، وأخَذْت ترتع في أودية الدنيا السحيقة، ولن يكون لك منها إلا ما قسم الله لك، ولن تخرج إلا بما كتب الله لك من الرزق، فلا تزال تلهث معهم، ولا يزال الإنسان يشتغل بأحاديثهم؛ باع فلانٌ، واشترى فلانٌ، وقَضَى فلانٌ، وعُمِّر فلانٌ، وهَدَم فلانٌ، حتى تأتيه قاصمة الله فلا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.
نسأل الله السلامة والعافية.
فإياك والجلوس مع أهل الغفلة! ابحث عن الصالحين، عن قومٍ إذا رأيتَهم ذكرت الله جل جلاله.
أما الوصية الأخيرة: فامسح على رأس اليتيم، وواسِ الأرملة والمسكين يلين الله قلبك، وصِلْ رحمك، واعفُ عمن أساء إليك، واتخذ من الصالحات سبيلاً: فإنك لا تزال تفعل الصالحات حتى تتغشاك الرحمة تلو الرحمة، حتى يصبح قلبك ليناً لله جل جلاله، حتى إنك لن تسمع آية إلا فاضت عيناك من الدموع لله سبحانه وتعالى.
والناس في لين القلوب على مراتب، فمَن كَمُلَت له هذه الأسباب، فإن قلبه يلين.
ألا وإن أعظم الأسباب وأجلها: تذكر كلام الله جل وعلا.
وكثرة تلاوة القرآن.
والاعتبار بمواعظه.
والوقوف أمام مشاهده.
فإن ذلك يلين القلوب.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يليِّن قلوبنا وقلوبكم، وأن يعيذنا وإياكم من القلب القاسي، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم.