Q ما هي أفضل الطرق لجعل قلوبنا خاشعة وخاصة إذا تليت عليها آيات الله في الصلاة؟
صلى الله عليه وسلم يذكرون ذات مرة أن رجلاً حكم القاضي عليه بالحجر؛ -الحجر: أن يمنعه من التصرف في ماله- وكانوا إذا حكم القاضي بالحجر على أحد، يدورون به في السوق، ويقولون: لا أحد يدين هذا ولا يعامل، أي لا يعامله مالياً، فإن عامله أحد بعد ذلك فلا يلوم إلا نفسه، واستأجروا له -أكرمكم الله- حماراً، وداروا به يومه كله، ينادون ويناد المنادي: لا أحد يقرض فلاناً فإن القاضي قد حجر عليه، فلما أمسى المساء جاءه صاحب الحمار وقال له: أين الأجرة؟ قال: ما أجهلك! ما الذي كنا فيه من الصباح؟! حاشاك أخي في الله! لا والله لا أقول: ما أجهلك! ولكن أقول: ما أحبك في الخير! وما أرجاك لرحمة الله والمزيد من ذكر الله! بارك الله فيك وكثر الله أمثالك، ولكن العلاج الذي كنا فيه، وقد يكون الأخ معذوراً، بأن يكون جاء متأخراً ويريد أن نعيد المحاضرة، ولكن على كلٍ هذا الذي كنا فيه وهو ما تنشرح به الصدور وتنيب به إلى الغفور الشكور، فإن الإنسان إذا وفقه الله إلى تحقيق الخصال التي ذكرناها والآداب التي أشرنا إليها، فإنه بتوفيق الله سيكون قلبه خاشعاً.
أما مسألة الصلاة فذكر العلماء رحمهم الله: أن الخشوع في الصلاة لا يكون بشيء مثل التدبر في نفس الآيات التي تتلى، عجيب أمر إنسان لا يخشع في الصلاة! إذا قال الإمام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] تذكر العالمين، هذا الوصف الذي وصف الله عز وجل به نفسه، رب العالمين الأولين والآخرين الذي رباهم وغذاهم وأولاهم تفضلاً منه وتكرماً، فإذا قال القائل أو قلت بلسانك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أحسست بعظمة هذا الذي يحمد وأحسست بجلال هذا الذي يحمد، فإذا قيل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] تذكرت من يرحمك وأنت على معصيتك، فيسترك ولو أذن للأرض أن تنخسف بك لانخسفت، ولو أذن للسماء أن ترسل عليك قاصفاً لأرسلت، فتقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] بقلب يستشعر معنى هذه الآية.
وعندما تقول {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وإذا بك تنتقل إلى عالم آخر {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ذاك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا أحساب ولا أنساب، ولا إخوان ولا خلان ولا أحباب {فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].
فإذا قيل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] خرجت إلى ذلك العالم، وأحسست بعالم الآخرة، من الذي يملك الأمر فيه، من الذي يأمر وينهى فيه، من الذي إذا قال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] لن يستطيع أحد أن يقف بين هذه الكلمة وبين تنفيذها، في طرفة عين لا يمكن أن يرد حكمه، أو يعقب قضاؤه، يحكم ولا معقب لحكمه، وإن قال: خذوه إلى درجات النعيم صدق عبدي، فما أسعدها من لحظة وما أبهجها من ساعة! لن يستطيع أحد أن يحول بينك وبين ذلك النعيم المقيم، الذي نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهله.
ولذلك أخي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] لو كان في الصلاة ما يقال إلا: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فإنه يكفى والله.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لك نذل وبك نستعين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] من الذي تشكو إليه إذا جاءتك الهموم والغموم في ظلمات الليل يكون بجوارك الناس فلا تستطيع أن توقظ زوجتك التي بجوارك على الفراش، ولم تستطع أن تشكو بثك وحزنك إلى ابنك القريب منك، من الذي تناديه؟! ومن الذي ترجوه لتفريج الآلام التي تعانيها والأشجان التي تجدها غيره سبحانه وتعالى؟! وكيف تجده حينما تناديه؟ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] بالاستغاثة والاستجارة وسؤال خيري الدنيا والآخرة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ونعم والله المعين.
كم من وقفة وقفت فيها وحيداً فريداً كان الله معيناً لك وكان الله سنداً لك، فكيف وجدته جل شأنه، ضاقت بك الدنيا في أموال فسخرها الله لك من حيث لا تحتسب، وضاقت عليك في هموم وغموم، فاستعنت به فكان نعم المعين، فأعانك وأولاك.
فإذا قلت: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] تذكرت ديوناً لله ما قضيتها، وهموماً وغموماً لله ما شكرتها، فتقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأنت تحس بعظمة الله تعالى رب العالمين.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فتذكر أن بلاءك وعناءك يقف على شيء واحد: صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، والله لو كتب الله للعبد الضلال لن يستطيع أن يهتدي، ولو كان من أصلح العباد قلباً فيختم له في آخر لحظة بخاتمة السوء، ولو أراد الله الهداية وكان العبد في دركات الجحيم والغواية، لانتشله الله منها فختم له بخاتمة السعادة والفوز العظيم.
إذاً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هي سعادتك في الدنيا والآخرة، وهي التي من أجلها نزل القرآن.
الهداية إلى الصراط المستقيم، من أجلها نزلت الكتب، وأنزلت الرسل.
وإني أفسر هذه الآيات حتى أدلك كيف تخشع في الصلاة، تخشع لأن ما عندنا قلوب نتفكر، كتاب الله يتلى ولا أحد يعي، نعم هذه الآيات لو تليت بقلوب تتفكرها وأفئدة تتدبرها وجدت حلاوتها، وسرعان ما تخشع لله.
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] من هم يا رب الذين أنعمت عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، قل لي بربك: لو شرح الله صدرك، فأصبحت تسير على نهج الرسول في قولك وفعلك وعملك واعتقادك: أي سعادة أعظم من هذه السعادة؟! اللهم إنا نسألك هذا المقام وهذه المكانة العظيمة، فلذلك تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وقلبك كله أمل في الله أن يبلغك هذا الأمر، صراط أولياء الله وأحباب الله حتى تكون أطيب الناس كلاماً وأطيبهم فعلاً وأكملهم استقامة في الظاهر والباطن لله رب العالمين.
ثم تقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وقلبك يرجف من خشية الله {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] هم اليهود الذين لعنهم الله في الدنيا والآخرة فأصمهم وأعمى أبصارهم، فكانت الآيات تنزل عليهم وما تفيدهم شيئاً، قال الله عنهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] (أو) هنا بمعنى (و) فهي تأتي في لغة العرب بمعنى الواو أي: وأشد، فالله تعالى قال: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] والله تعالى لا يشك، فمعنى قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] أي: وأدنى، ومعروف في لغة العرب أن (أو) تأتي بمعنى: (و) فقال تعالى: {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] فتقول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وأنت تتعلق بالله أن لا يبتليك بما ابتلاهم من الضلال.
ثم تقول: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فرطوا وغلوا، وكم من أمة غلت في أنبيائها وفي الصالحين من أهلها حتى أصابهم غضب الله وسخطه -والعياذ بالله- ولذلك قال الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:1 - 5] نسأل الله السلامة والعافية.
وقف عمر رضي الله عنه على عابدٍ راهبٍ في كنيسة يتعبد فدمعت عينه، فقالوا له في ذلك وعتبوا عليه الدمعة، يظنون أنه رق لعبادة النصراني، قال: لم أرق لعبادته، ولكني ذكرت قول الله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:1 - 4].
فلذلك يقول الإنسان: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] والضالين الذين زين لهم سوء أعمالهم فكانوا على الضلال: ضلال في الهدى، وفي الأهواء، فالضلال يكون أكمل ما يكون على الكفر والزندقة، ويكون على ما دون ذلك، وهو مراتب منها: البدعة والأهواء، فتجد الشخص يعمل البدعة وهو يظن أنه أقرب الناس إلى الخير، نسأل الله أن لا يطمس لنا ولكم بصيرة، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاهتداء بهدي السلف الذي هو صراط الذين {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
فإذا تدبرت هذه الآيات ووقفت مع هذه العظات لان قلبك، ثم ما جاء بعد ذلك من فضل، وجاء من الزيادة من كلام الله، زادك خشوعاً إلى خشوعك.
ويحاول الإنسان الذي يريد أن يخشع في صلاته قدر استطاعته أن يتعاطى الخشوع، ولو أن يتكلف ذلك بالضغط على نفسه.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم كمال الخشوع بين يديه، والله تعالى أعلم.