Q ما هي وصيتكم لطالبٍ علم لا يقيم لوقته موعداًً محدداً، بل يجعل الظروف هي التي تحركه مع أنها تكون في مرضاة الله؟ وما حكم القول بالمجاز في القرآن؟ كما يطلب الدعاء منكم لنا!
صلى الله عليه وسلم أما بالنسبة للمسألة الأولى: فإن ترتيب الوقت عاملٌ مهمٌ جداً في الاستفادة لطالب العلم، يُرتب طالب العلم الوقتَ، والأفضل والأكمل بل هو الأصل أن طالب العلم يلتزم بشيخ، ويكون شيخه عالماً عاملاً ملتزماً بالكتاب والسنة، يلتزم به، ويصحبه، ويرافقه، يتأسى بالسلف رحمهم الله، فإذا لازم هذا العالِمَ كان معه، ورتب وقته على حسب دروس هذا العالم، وعلى حسب مجالسه.
وأما بالنسبة لإضاعة الوقت فهذا من أعظم المصائب التي تكون على طالب العلم، أعز شيء يملكه طالب العلم: الوقت، والذي يريد العلم يحفظ وقته.
وكان الوالد رحمه الله إذا ذُكر عنده أحد -أعني: من طلاب العلم- يقول: نِعْم طالب العلم؛ لأنه يراه حريصاً على وقته، وإذا رأى إنساناً كثير الزيارة للناس، كثير الاشتغال بفُضول الدنيا لا يَعُدُّه طالبَ علم؛ لأن مفتاح طلب العلم: الحفاظ على الوقت.
ولا أعرف مثله رحمه الله في حرصه على الوقت، وأذكر أنه كان بمجرد ما يدخل البيت يستفتح بالصلاة، فيصلي ما كُتِب له، ولا أذكر أنه دخل وجلس على فراشه في حياته كلها معي، أو أنه دخل وجلس على فراشه قبل أن يصلي، إلا إذا كان وقتَ نهي، فيدخل، ثم ينقلب على كتبه، ويقرأ فيها ما شاء الله أن يقرأ، حتى إنه في بعض الأحيان يستمر إلى قرابة منتصف الليل، وإذا دعي إلى مناسبات أو ولائم يأخذ كتابه معه، فإن وجد في هذه المناسبة الفوائدَ أو مجلسَ ذكرٍ وعلمٍ جَلَسَ، فإن وجدهم فلانٌ قال وفلانٌ قال، أخذ كتابه وذهب في ظل شجرة يقرأ حتى يحضر وقت الغداء فيتغدى، ثم يمضي.
فطالب العلم أعز شيء عنده الوقت، خاصة إذا كان خرج من مدينته لطلب العلم في مدينة ثانية، وما ترك والديه، ولا ترك إخوانه، ولا قرابته عبثاً، فينبغي للشخص الذي يسافر عن أهله أن يحترق في قرارة قلبه على كل ساعة؛ لأنه حَرَم والديه رؤيته، فينبغي أن يكون الشيءُ الذي من أجله فارقهم أعزَّ من الشيء الذي يكون من أجله موجوداً بينهم.
فينبغي الحرص على الوقت، وإضاعةُ الأوقات في القيل والقال والتراهات من أعظم الآفات التي تُضَيِّع على طالب العلم الخيرَ الكثير.
فأهم شيء: الحرص على الوقت.
ومن الحرص على الوقت أيضاً: إذا جلس طالب العلم مع عالم أو مع طالب علم، فإنه يستفيد، أعني: إذا جلس مع طلاب العلم لا يجلس هكذا صامتاً، بل يسألهم مسألة إن كانوا دونه في العلم، ويطرح عليهم مسألة، ثم يفيدهم بها، وإن كانوا أعلى منه ذاكَرَهم وتواضَعَ للعلم، فهو دائماً يكون في مذاكرةٍ للعلم، فإن مذاكرة العلم عبادة، والإنسان يشتري رحمة الله في طلب العلم في كل لحظاته وحركاته، ويحتسب، حتى إذا جلس مع الناس فإنه يستفيد أو يفيد.
هذه رسالة لطالب العلم.
أما قضية المجاز في القرآن: فهذه مسألة خلافية: من العلماء من قال: لا مجاز في القرآن.
ومنهم من قال: فيه المجاز.
والصحيح: أن المجاز موجودٌ في القرآن في غير أسماء الله وصفاته، والدليل على وجوده: أنه لا يستطيع أحد أن ينكر وجود المجاز في اللغة، فالمجاز موجودٌ في اللغة، وهو بلسان العرب، قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] فهل يوم القيامة يعبس على الحقيقة؟! وقال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] هل القلوب بلغت الحناجر حقيقة؟! لا، إنما هو كناية.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] تَمسوهن: كناية عن الجماع.
فهذا كله تجوُّزٌ في العبارة.
ولكن في أسماء الله وصفاته ليس هناك مجاز.
والسبب الذي جعل العلماء يقولون: بنفي المجاز عموماً في القرآن إقفال باب التأويل على الأشاعرة؛ ولكن من الممكن أن نُقْفِل عليهم باب التأويل بأن نقر بوجود الأسلوب؛ ولكن في أسماء الله وصفاته نناقشهم بالطريقة التالية وهي: نقول لهم: إن مما اتفق العلماء عليه: أنه إذا تعارضت الحقيقة والمجاز، فإن الأصح حمل الدلائل في الكتاب والسنة على الحقيقة ما لم يدل الدليل على المجاز، فلما قال الله: {بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: يديه، حملناها على الحقيقة، فلما لم يوجد دليل من الكتاب والسنة على صرف اللفظ عن الحقيقة بقينا عليها، فقلتم: بالصرف - أعني: الأشاعرة - بدلالة العقل، ولا نعتبرها دليلاً كافياً للعدول عن ظاهر القرآن، فمن الممكن مناقشة الأشاعرة -حينما قالوا بالمجاز في الأسماء والصفات- مناقشةً بهذا الأصل، وهذا الأصل قرره الأصوليون في باب تعارض الحقائق.
وعلى العموم فإن القول بوجوده أو عدم وجوده يقرر بعض العلماء أنه خلاف لفظي؛ لأنهم يقولون: الأسلوب موجود؛ ولكن اختلفوا هل يُسَمى مجازاً أو أن العرب تكلمت به على هذه الصفة؟! لأن الكلام موجود، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ثكلتك أمك) ما معنى ثكلتك أمك؟! معناها: فقدتك، هل يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الفَقد؟! (رَغِم أنف امرئ أدرك أحد أبويه أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة) هل رَغِم المراد به الرُّغام حقيقة؟! كل هذا كنايات؛ لأن اللغة العربية لغةٌ واسعة، وهذا هو الذي يعتبر من سماتها وهو: سعتها، فإنه قد يراد ظاهر اللفظ وقد يراد غير اللفظ.
فالمقصود أن الأسلوب موجود، قال صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى! أحابِسَتُنا هي؟!) عقرى حلقى، معناهما: عَقَرَها الله، حَلَقَها الله، كناية عن مصيبة، هل يراد أن المصيبة تصيبها؟! ليس المراد ذلك، إنما المراد كناية، كل هذا كنايات، ويعتبر من التجوُّز في العبارة.
والله تعالى أعلم.