Q لا أجد في نفسي القدرة على الاستيعاب للعلم، وأنا طالب في الجامعة؛ ولكني أريد الجهاد، وأبي يرفض هذا الأمر! فكيف الحل؟
صلى الله عليه وسلم باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فَهْم العلم وضبطُه يحتاج إلى تفريغ القلب له، وقلبُك مشغولٌ بما أنت تحبه، وإذا تعلق القلب بحب شيء انصرف عن كل شيءٍ سواه، فلعل ضعف فَهمك وإدراكك سببه أنك لم تعطِ العلم ما يستحقه من الإقبال ومن العناية، ولذلك لم تجد له أثراً في نفسك، فأنت تحب شيئاً غير العلم، وقلبك منصرفٌ إلى هذا الشيء، و {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
فإذا كنت تريد العلم فأعطِ العلم كُلَّك يعطيك بعضَه، فكيف إذا لم تعطِه شيئاً؟! الأمر الثاني: قضية الجهاد: فلا يجوز لمن كان عنده والدان أو أحدهما أن يخرج إلى الجهاد إلا بعد استئذانهما، ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) هذا الحديث الصحيح فيه فوائد: أولها: أن الرجل جاء يبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، كما ورد في الروايات الأخرى في السنن، وفي روايةٍ في السنن أيضاً صحيحة: (قال: يا رسول الله! أقبلتُ أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: أحيٌّ والداك أو أحدهما؟ قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأحسن صحبتهما) رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أريد أن أهاجر وأكون معك، وأجاهد، مِن أفضل ما يكون: عِلْمٌ وجهادٌ، فقال له: (أحيٌّ والداك أو أحدهما؟ قال: بل كلاهما، قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأحسن صحبتهما).
وفي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلتُ من اليمن -أكثر من ألف كم- أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحَيَّةٌ أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها فإن الجنة ثَمَّ).
فالذي يريد رحمة الله عز وجل إذا وجد الوالدان فإن حقهما مقدمٌ على الجهاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين، قلتُ: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
ثانيها: أخذ العلماء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم حُكْماً شرعياً، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الصحابي: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم) لم يسأله: أهما كافرَين أم مسلمَين؟ أهما بحاجة إليك أو ليسا بحاجة إليك؟ أعندك إخوة أو ليس عندك إخوة؟ بل سأله: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
والقاعدة في الأصول: أن (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال).
ترك الاستفصال، أي: لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم منه.
في مقام الاحتمال، أي: في مقام يحتمل أن يكون الوالد بحاجة أو ليس بحاجة.
ينزل منزلة العموم في المقال، أي: الْزَمْ والدَيك سواءً كانا بحاجةٍ إليك أو لم يكونا بحاجة إليك.
السبب في هذا أنه ليست القضية قضاء حاجة الوالدين أبداً، القضية تقوم على حكم جليلة: منها: أن الوالد والوالدة لا يستطيعان فراق الابن، وهذا شيء لا يملكه الوالد ولا تملكه الوالدة، نبي من أنبياء الله، يعقوب عليه السلام يعلم أن ابنه سيعود إليه، يقول تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] فهو نبي من أنبياء الله، ويعلم أن ابنه سيعود إليه وتبيضُّ عينه من البكاء، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] فكيف بغيره؟! هذه نماذج وقصص ما ذكرها الله في القرآن عبثاً، ذكر لك نموذجين للأب والأم: الأب: في يعقوب.
والأم: يقول تعالى عن مريم: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ …} [مريم:23] أي: ألجأها {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] كأن الله يقول: إذا كان هذه التي يقال لها: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] فمع هذه العناية الإلهية تقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فكيف بالأمهات الأخريات؟! هذه نماذج ذكرها الله من حنان الوالدَين وعطفهما وعظيم حقهما، حتى يعلم الإنسان أن القضية ليست قضية كونهما بحاجة إليك أو ليسا بحاجة، القضية قضية العاطفة، ولذلك قد يخرج الابن للجهاد دون استئذان والدَيه، فيبلغ استشهاده الوالدان، فيتسخطان على القدر، فينجو الابن ويهلك الوالدان، ويكون ذلك أعظم ما يكون من العقوبة، وهذا ذكره العلماء في الحِكَم المترتبة على استئذان الوالدَين.
ولعل الله له حكمة؛ يعلم أن خروج الإنسان للجهاد في هذه الفترة فيه فتنةٌ له، أو أنه لا يخلُص، أو أن هناك أمامه أمورٌ تعيقه عن أن تكون شهادته مقبولة، فيبتليه الله بالوالدين، يقول له الوالد: لا، لا تخرج، وتقول الوالدة: لا تخرج، فيصبر ويحتسب حتى يبلغ رضا الوالدين، ثم يجمع الله له بين الحسنيين، فوالله ما أرضى أحدٌ والديه وترك الجهاد إرضاءً لهما إلا جعل الله له باب شهادة قريبة أو بعيدة، فيحتسب الإنسان، ما دام النص يقول: بالاستئذان، ما نخرج إلا بعد الاستئذان، لا اجتهاد مع النص، ولا آراء مع النصوص، ونقف مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للقضية الثانية وهي: قضية خروج الإنسان للجهاد: حبذا لو يسبقه علمٌ أو تسبقه درجة من العلم حتى يكون أرفع ما يكون؛ لأن: أعلى المراتب عند الله: مرتبة النبوة.
ثم بعد مرتبة النبوة: مرتبة العلم.
ثم بعد مرتبة العلم: الشهادة.
ثم: الصلاح.
أربع مراتب جمعها الله في قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ.
} [النساء:69] هذه أعلى درجة من الجنة {.
وَالصِّدِّيقِينَ.
} [النساء:69] تعرفون مَن هم الصديقون؟ إنهم العلماء العاملون {.
وَالشُّهَدَاءِ.
} [النساء:69] بعدَهم {.
وَالصَّالِحِينَ.
} [النساء:69].
وإنما علت مرتبة العلماء؛ لأنها وراثة وخلافة تلي مقام النبوة، ولذلك كان مقامها أعلى من مقام الشهادة.
المقصود: أن يحتسب الإنسان إذا أبى والداه، وينبغي أن يُعلم أنه ينبغي للإنسان إذا أبى والداه عن الاستئذان ألا يلح عليهما، ولذلك قرر طائفة من العلماء على أنه لو ألح على والديه وأحرجهما بالإذن أنَّ الإذن وجوده وعدمه على حدٍ سواء؛ لأنه لم يأخذ برضاهما، وإنما أَخذ بكُرهٍ لهما.
فينبغي للإنسان أن يحتسب، إذا وجد الرضا فليعلم أن الله قد اختار له الرضا، وإن لم يجد فما عليه إلا أن يصبر والله يأجره، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم وادياً -يقول هذا وهو في طخوم الشام، في غزوة العسرة- ولا قطعتم شِعباً إلا كانوا معكم، إلا شاركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله، وكيف وهم في المدينة؟! قال: حبَسهم العذر).
فإذا امتنع الوالدان من الإذن لك فقد حبَسَك عذرٌ شرعي، فاعلم أن الله يأجرك، وأن الله يبلغك مراتب المجاهدين.
والله تعالى أعلم.