الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: إخواني في الله: اللسان نعمة من الله تبارك وتعالى على العبد، وهذه النعمة تستوجب من العبد أن يشكرها لا أن يكفرها، وأن يسخرها في محبة ربها ومولاها سبحانه وتعالى، ويكون ذلك باستغراقها في ذكر وشكر يرضي الله عز وجل، فإذا كان الإنسان قد أراد الله عز وجل له التوفيق ألهمه استدامة الذكر، ولذلك من ذكر الله كان في حصن حصين من عدوه وهو إبليس لعنه الله، والعكس بالعكس.
ولن تجد الإنسان قد انشرح قلبه واطمأن فؤاده، وأصبحت نفسه طيبة مطمئنة إلا وجدته محافظاً على ذكر الله عز وجل، والعكس بالعكس، فالذين يكثرون الكلام في فضول ولغط الدنيا غالباً ما تجدهم قد قست قلوبهم، وكذلك تجدهم في بعد وغفلة عن آخرتهم، ولذلك نصح العلماء رحمهم الله باغتنام الحديث فيما يرضي الله عز وجل، وحذر العلماء والأخيار من فتنة القول التي توجب قسوة القلب.
فالمقصود: أن الإنسان إذا كان مبتلىً بكثرة الحديث في لغط الدنيا ننظر في الأسباب، الأمر الأول: أحياناً يكون السبب القرناء الذين تجلس معهم، فإذا كان القرناء الذين يجلس معهم الإنسان أقوام شغلتهم الدنيا عن الآخرة، وألهتهم فضول الدنيا عن الآخرة، وعن التجارة الرابحة مع الله تبارك وتعالى، فالعلاج أن تلتمس قرناء أخيار أهل ذكر وشكر وعبادة وطاعة وإنابة إلى الله عز وجل، هذا إذا كان السبب الخلطاء، وهذا هو من أعظم الأسباب: القرناء.
الأمر الثاني: قد يكون السبب ضعف الإيمان في القلب، فإن الإنسان إذا ضعف إيمانه اتجه إلى ما هو ضد ذلك، وهو فضول أحاديث الدنيا، والاشتغال بلغط هذه الأحاديث التي قد تنتهي به إلى ما لا تحمد عقباه.
الأمر الثالث: هذا الضعف -ضعف الإيمان- علاجه: أخذ الأسباب التي تعين على قوة الإيمان بدرجة يكثر فيها ذكر العبد لربه، وكذلك اغتنامه للسانه في طاعة الله عز وجل، قد أفلح والله من رزقه الله لساناً ذاكراً، وأفلح والله من رزقه الله لساناً شاكراً، وما الذي يجنيه الإنسان من هذه الحروف والكلمات، إما كلمة له وإما كلمة عليه، كلمة تسره إذا لقي الله عز وجل، ويبيض بها وجهه، ويثقل بها ميزانه، وتنصع بها صحيفة عمله عند ربه يوم القيامة، فالإنسان يحافظ على أن يكون من أهل ذكر الله عز وجل، ويحافظ على مرتبة السلامة وهي الصمت، فإذا لم يجد من يعينه على ذكر الله يقتصر على الصمت.
الحلم زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مهذارا ما إن ندمت على السكوت بمرة ولقد ندمت على الكلام مرارا والكلمة إذا خرجت من الفم لن تعود أبداً، فهي إما للإنسان وإما عليه، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمسك بلسان نفسه ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد] كم كلمة تلفظت بها فاشتريت بها رحمة الله، وكم كلمة تلفظ بها العبد أوجبت سخط الله وغضبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) تتكلم بكلمة واحدة تثني بها على الله عز وجل.
كنت جالساً لوحدك فتذكرت آلاء الله عز وجل، وقلت: كنت محروماً فأعطاني الله، وضعيفاً فقواني الله، وجاهلاً فعلمني الله، وخائفاً فأمنني الله وكنت وكنت هذا الكلام التي تتلفظه وتثني به على الله عز وجل يكتب الله لك به الرضا، وقد تكون هذه الحروف تلفظها وتتكلم بها لا تلقي لها بالاً تصعد إلى السماء، هذا الكلام اليسير الذي تثني به على العلي الكبير يصعد إلى الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] تصعد فتفتح لها أبواب السماء، لكي تنتهي إلى ذلك المكان الذي شاء الله أن تنتهي إليه، لماذا؟ لأنها كلام يحبه الله ويرضاه.
والعكس بالعكس -والعياذ بالله- قد يتكلم الإنسان بالكلمة لا يلقي لها بالاً يكون فيها غيبة، أو نميمة، أو لمز، أو انتقاص للناس، يهوي بها في سفال -والعياذ بالله- وليأتين عليه يومٌ يتمنى فيه أن أمه لم تلده حتى لا يتكلم بتلك الكلمة.
والعبد قد ينجو بكلمة صالحة، وقد يهلك بكلمة طالحة، ينصب للعبد ميزانه وينشر له ديوانه ويقال: هات ما عندك من صلاح وطلاح، فيأتي بأعماله الصالحة لكي توزن، ويأتي بأعماله السيئة لكي توزن، فتستوي كفة الحسنات والسيئات، وتأتي تسبيحة واحدة أو تحميدة أو استغفارة توجب نجاته من عرصات يوم القيامة وهي كلمة واحدة.
فالمقصود: أن العبد إذا تكلم أو كان في مجلس أن يحرص على أحد أمرين: إما أن تكون من أهل الكمال -رحمك الله- بالكلام الطيب، والتذكير بالله عز وجل، وتقريب القلوب إلى الله عز وجل، أو على الأقل تكون صامتاً وهو حال أهل السلامة، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولذلك قال بعض السلف: [من علم أن الله يسأله عن كلام فيه؛ قَلَّ قوله إلا فيما يعنيه] من علم أن الله سيسأله عن قول فيه، يعني: الكلام الذي تكلمه بفمه، قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه.
ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله حريصين على عدم كثرة الكلام، والثرثرة فيما لا يرضي، خاصة إذا كانت فيما لا يرضي الله عز وجل، الآن بعض الشباب الأخيار يصلون ويخرجون من تلك البيوت الطاهرة ثم نزل بهم القدم إلى الوقوع في ذلك، فأنت إذا صليت في مسجد من المساجد تخرج بانشراح عجيب، وطمأنينة غريبة، حتى إذا جلست المجلس ونطقت بكلمة واحدة من غضب الله وإذا بالقلب يضنك، وإذا بذلك الانشراح يخلفه انقباض، وذلك النور تعقبه الظلمة، فإذا بالقلب قد تغير، وإذا بالنفس التي كانت مطمئنة متلهفة على طاعة الله إذا بها على العكس أو الضد من ذلك والعياذ بالله.
فالمقصود: لا بد من مراقبة اللسان والكلام الذي يتفوه به، فهذا من علامة السعادة والتوفيق -جعلنا الله وإياكم من أصحابها- ولذلك ذكروا عن بعض السلف أنه كان يحصي عدد الكلمات التي يتكلم بها من الجمعة إلى الجمعة، ولذلك يقول بعض الفضلاء: لو أن إنساناً جرب يوماً من الأيام أن يكتب بعض كلامه لأخذ صفحات كثيرة، فكيف بكل الكلام.
فالمقصود: أنه ينبغي الحذر من هذا، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم لساناً ذاكراً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.