قيام رمضان السنة فيه أن يهتدي المسلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فكان صلوات الله وسلامه عليه قوام لليل في رمضان وغير رمضان، وكانت سنة ماضية في سائر العام لكنه إذا دخل عليه رمضان ودخلت عليه العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله صلى الله عليه وسلم وأيقظ أهله؛ كل ذلك لكي تنتبه الأمة لفضل هذا الشهر عموماً ولفضيلة العشر الأواخر فيه خصوصاً، ففيها ليلة هي أفضل من ألف شهر يقومه العبد لله جل جلاله، وهي الليلة التي يقول العلماء: إن الله اختارها من العام كله، فأفضل ليلة في العام كله بل في الدهر كله هي ليلة القدر، ولذلك اختارها الله لنزول القرآن كما أخبر سبحانه وتعالى في سورة أنزلها للدلالة على شرفها وفضلها.
وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل أكمل الهدي وأجمله وأحسنه وأفضله، ما كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل فيبالغ في قيامه، ولا كان على منهج الرهبانية والغلو في العبادة، برئت سنته صلوات الله وسلامه عليه من الغلو والتشدد، ولذلك كان ينام ويقوم عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ولما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أن يواصل قيام الليل منعه، فكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أحيا الليل على أجزائه الثلاثة، فقام أول الليل وقام أوسط الليل وقام آخر الليل وانتهى وتره وقيامه عليه الصلاة والسلام إلى آخر الليل.
ولذلك قال العلماء: السنة ألا يكون القيام لليل كاملاً، واستثنى بعض العلماء ليالي العشر الأواخر فقالوا: الأفضل أن يجتهد في قيامها ولو استغرق الليل كاملاً بالقيام فلا بأس؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (وأحيا ليله) فدل على أنه لم يكن ينام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يقوم آخر الليل ولذلك قال العلماء: الأفضل أن ينام المسلم أول الليل ويكون قيامه آخر الليل لعدة أمور: أولها: أن هذا الوقت هو أفضل الأوقات وأشرفها بالليل؛ لأن الله أختاره بنزوله فينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته وكماله، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، نزولاً حقيقياً يليق بجلاله سبحانه وكماله، فينادي: هل من تائب فأتوب عليه، هل من داعٍ فأستجيب دعاءه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، فهذا يدل على فضل آخر الليل.
وقال بعض العلماء: إن الأفضل للإنسان أن يقوم الثلث الأخير إذا كان واثقاً من القيام، أما إذا غلب على ظنه أنه سينام وأنه لا يتمكن من القيام في آخر الليل فالأفضل أن يؤخر إلى نصف الليل؛ وذلك لأن نصف الليل أقرب إلى الثلث الآخر، وكلما كان القيام قريباً من وقت الفضيلة كلما كان له حظ من الأجر، قالوا: فيؤخر قيامه إلى الثلث الأوسط من الليل؛ لأنه سيتعب في الانتظار ويجد المشقة والجهد وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ثوابك على قدر نصبك) فدل على أن النصب والتعب يزيد في أجر العبادة وأجر القربة، فقالوا: يفضل ألا يقوم من أول الليل وإنما يتأخر إلى قدر نصف الليل ويحيي هذا القدر.
وقال بعض العلماء: إذا كان يتأخر إلى نصف الليل ويؤدي ذلك إلى ضياع صلاة الفجر عليه أو أنه يصلي وهو مجهد منهك لا يفقه القرآن ولا يتفهمه فالأفضل أن يصلي عقب العشاء؛ لأنه أقدر على فهم وتدبر القرآن وأكمل في خشوعه وهو يناجي ربه.
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه ينام أول الليل، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات مع النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة، وهذا يدل على فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحبهم للخير، هذا الغلام صغير السن ولكنه كبير بعلمه وفضله ونبله وحبه لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحث عن هديه حتى نام معه عليه الصلاة والسلام لكي يرقب وينظر ماذا يكون من هديه وسنته إذا قام من الليل، فبات في عرض الوسادة كما في الصحيحين، قال: نام عليه الصلاة والسلام حتى نفخ وابن عباس رضي الله عنه يراقب رسول الله صلى الله عليه وسلم مراقبة دقيقة لكي يحفظ للأمة هذا الهدي وهذه السنة؛ فنسأل الله العظيم أن يعظم أجره وثوابه بما حفظ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (فقام أي: قام رسول صلى الله عليه وسلم -هذا بعد شطر الليل- فأول ما كان من قيامه عليه الصلاة والسلام أن مسح النوم من على عينيه ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ثم لما ختمها قال صلوات الله وسلامه عليه: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن) لأنهن آيات عظيمة تدل على عظمة الله جل جلاله فقلب لا يخشع لها ولا يتأثر بها فويل له، ويل له إن لم يتداركه الله برحمته.
كان بعض العلماء يقول: من أحب أن يعرف مقدار خشوعه وتأثره فليقرأ هذه الآية، ولينظر هل هو متعظ بما فيها ومتأثر بها أم لا حتى يعرف مقدار منزلته من الخشوع وتأثره بكلام الله جل جلاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختارها ورتب الوعيد على عدم التأثر بها؛ فدل على أنها آيات عظيمة، قال: (فلما فرغ منها قام عليه الصلاة والسلام فأفرغ من شنٍ -يعني: من قربة- فتوضأ فأسبغ الوضوء) وللوضوء في ظلمة الليل خاصة في ليالي الشتاء لذة يعرفها من يعرفها وحلاوة لو ذاقها المؤمن قل أن يتركها، ففيها غفران الذنوب ورفعة الدرجات: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره).
قال بعض العلماء: إسباغ الوضوء في جوف الليل الأظلم في شدة الليلة الباردة الشاتية.
تقوم من مضجعك ومن مكان سكونك وراحتك لكي تناجي الله جل جلاله فتصب الماء على أعضائك، فإذا وجدت شدة البرد وأذى البرد على جوارحك وجدت لذة العبودية والطاعة والقربة لله سبحانه.
ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نام مع حبه وزوجه وقام من الليل لكي يتهجد قال الله تعالى: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وأهله؟ قالوا: إلهنا يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله تعالى: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي) (فقام صلى الله عليه وسلم فأفرغ الماء فتوضأ فأسبغ الوضوء) قال ابن عباس: فأسبغ الوضوء ولها معنى؛ لأن هذا الوقت وهو الوضوء في الليل كما ذكرنا غالباً يكون فيه الماء بارداً فمن فقه ابن عباس قال: فأسبغ الوضوء، أي: في وضوئه عليه الصلاة والسلام كان على الكمال وذلك بأن يكون ثلاثاً، قال: (ثم قام فقمت فصنعت مثلما صنع).