ألا وإنَّ للسان آفات، فكما أن لله حقوقاً يزل فيها اللسان، فإن للعباد حقوقاً تزل فيها الألسن، تلك الحقوق التي تهتك بها عورات المسلمين، تلك الحقوق التي تضيع فيها حدود الله رب العالمين، إنها الحقوق التي ينتهكها الإنسان بالكلمة الواحدة في وجه أخيه أو غيبته.
ومن آفات اللسان التي تكون بين الإنسان وأخيه: الغيبة، وهي أن يذكر أخاه بما لا يحب أن يذكره به، قالوا: (يا رسول الله أرأيت لو كان فيه ما قلت؟ قال: إن كان فيه ما قلت فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) فإن كان ما قلت فيه فهي غيبة، وإن لم يكن فيه ذلك فقد بهته وظلمته.
الغيبة يوم يجلس الإنسان في تلك المجالس فيظن أن الله لا يسمعه ولا يراه، فيذكر أخاً من إخوانه، ويذكر عيباً من عيوبه، فيقول: فلان فيه كذا وكذا، وفلان فعل كذا وكذا، وحينئذٍ تخط هذه الكلمة في صحيفة عمله لكي يلقى الله جل وعلا بذنبه.
ألا وإن الغيبة من آفات اللسان وزلاتها، ومما يجب على كل مسلم أن يخاف الله ويرجوه، ويَسلم منه إخوانه المسلمين عند غيبتهم عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون يده ولسانه) أي: المسلم الكامل والمسلم الحق.
ليسلم الناس جميعاً منك، وارض لعل الله يرضى عنك، سلِّم المسلمين من لسانك، فإذا جلست في المجلس وأردت أن تذكر مسلماً فاجعل الجنة والنار بين عينيك إذا أردت أن تذكر أخاك المسلم فلا تذكره إلا بخير، ولا تذكر عيوبه، فإن ذكر العيوب هتكٌ لستر الله جل وعلا عليه، ولذلك قال الإمام مالك رحمة الله عليه كلمةً عجيبةً غريبةً! قال رحمه الله: أعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس، فأوجد الناس لهم عيوباً، وأعرف أناساً عندهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم.
أعرف أناساً لا عيوب عندهم -أهل استقامة وطاعة- ولكنهم يتكلمون في عيوب الناس: فلان فيه وفلان فيه، يهتكون ستر الله عليهم، فأوجد الناس لهم عيوباً -أي: صارت الناس تظلمهم وتقول: فيهم.
وهو ليس فيهم- لأنهم هتكوا ستر الله على عباده، وأعرف أناساً عندهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسكت الناس عن عيوبهم، فالكلام في عيوب الناس لا خير فيه.
عليك نفسك فاشتغل بعيوبها ودع عيوب الناس للناس سل الله العافية، فإن عيَّرت مبتلىً فلعل الله أن يعافيه ويبتليك، ولذلك ذُكر عن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمامٌ من أئمة التابعين وصفحةٌ من صفحات السنة المشرقة والصلاح والعبادة في زمانه، وقد أوصى أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن يغسله إذا مات- أنه لما كان في آخر حياته أصابه الدين، فقال: والله إني لأعرف الذنب الذي من أجله بليت بالدين.
قالوا: وما ذاك؟ قال: قلت لرجلٍ قبل أربعين عاماً: يا مفلس!! أذية المسلم لا تفوت؛ إما أن ينتقم الله من المؤذي في الدنيا، أو ينتقم منه في آخر لحظاته من الدنيا، أو ينتقم منه في الآخرة، أو يجمع الله له بين الثلاث النقم والعياذ بالله.
عورات المسلمين عظيمة! ما خلق الله الإنسان لكي يهتك عورات المسلمين: (من ستر مسلماً ستره الله، ومن تتبع عورة مسلمٍ تتبع الله عورته) وورد في الرواية الأخرى: (ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره).
فاتق الله، لسانك لا تذكر بها عورة مسلم، وخف الله في هذه العورات والعيوب التي في الناس، وقل: يا مسلِّم سلِّم.
وقل: الحمد الذي عافاني مما ابتلاهم به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.
اتق الله في عورات المسلمين، ولا تذكر عورة مسلم؛ فإن الله يسترك كما سترتهم، ويعافيك إذا حمدت الله عز وجل على العافية إذا رأيتهم.
وينبغي على المسلم إذا نظر إلى عورة أخيه المسلم أن يسعى في استصلاحها، وألا يشمت بها، فمن كمال إيمان المؤمن أنه يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن كنت مؤمناً حقاً فلا تتبجح في المجالس وتقول: يفعلون ويفعلون ولكن هيئ من نفسك ذلك المؤمن الصالح، واحتسب تلك الخطوات التي تشتري بها رحمة الله ولتذهب إلى هذا المبتلى وتلقي في أذنه كلماتٍ ينفعك الله بها في الدنيا والآخرة، فتذكره بالله وتُهدي إليه العيوب، فلعل ذلك أن يكون سبباً في صلاحه هذا هو المنبغي على الإنسان، أما أن يجلس بين إخوانه، ويذكر العيوب والمثالب فهذا لا ينبغي.
وقد يكون العبد صالحاً فيذكر فواحش ومنكرات تقع في المجتمع، وهذا لا ينبغي خاصةً إذا شهر بها على وجه لا يترتب عليه المصالح؛ فإن ذلك ضرره أعظم من نفعه، وخطره أعظم من خيره، قال سفيان رحمه الله: إذا سمعتم بالفواحش والمنكرات، فلا تذيعوها فإنها ثلمةٌ في الدين.
إذا سمع الناس أن فلاناً فعل وفلاناً فعل قد تقتدي بهم، ولكن حاول ألا تذكر هذه العورات إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة من التحذير، وبيان الخطأ كما هو واجب على العالم، ويجب أن يصحب ذلك إخلاص النية لله جل وعلا والإشفاق، وأن يكون ذلك النصح بأسلوب يدل على حسن قصد صاحبه، فنعم والله من يصنع ذلك! فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبين ذلك ويفعل ذلك صلوات ربي وسلامه عليه.
فمن حقوق المسلم على أخيه المسلم ألا يذكر عورته، وألا يشهر به، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوجه يصعد على المنبر ويقول: (ما بال أقوام؟) ما قال: يا فلان بن فلان: لمَ فعلت كذا وكذا؟ لا يشهر صلوات ربي وسلامه عليه، إلا إذا وجدت المصلحة المقتضية لذلك، أو غلب على الظن اندراء المفسدة بتشهيره.
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جاراً جاء يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جاره، فأمره أن يخرج متاعه عن بيته، فصار كلما مرَّ عليه الناس قالوا له: ما بك؟ ما شأنك؟ قال: جاري يؤذيني، فكل من مرَّ لعن جاره وسبه وآذاه.
فقال له جاره لما رأى ذلك: ارجع إلى بيتك، فلن ترى ولن تسمع مني إلا خيراً).
ألا وإن من أعظم من ينبغي أن يستر هو جارك وأقرب الناس منك، فإن من حق الجار على الجار ألا ترسل لسانك على عورته، ولا تدل على عورته، ولذلك وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالجار، ووصى من قبله كتاب الله الواحد القهار.
وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام على قدميه ومعه رجلٌ يناجيه، فوقف حتى طال موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء صحابي يريد النبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ وذلك الرجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه المرة تلو المرة، يقول الصحابي: حتى أشفقت على النبي صلى الله عليه وسلم من طول القيام، فلما فرغ الرجل من ذلك المقام ومضى وانصرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)؛ حتى ظننت أن الله سيجعل الجار كالابن الذي من النسب يرثك وترثه.
فلا تذكر عورة الجار؛ لأن الجار قريب منك تسمع صيحته وتعلم حاله وتعرف أبناءه وبناته وما يكون غالباً من شأن أهله، فلذلك كان من حقه العظيم أن تستر عورته، ولا تفضح شيئاً من ذلك.