الخصلة الأولى: بينك وبين الله عز وجل وهي: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) والكلام في محبة الله والرسول صلوات الله وسلامه عليه ينحصر في أمرين وثالثهما هو الثمرة.
أما الأمر الأول: فإن العلماء رحمهم الله يقولون: كل محبة من العبد لها سبب، وهذا السبب إما أن يكون دنيوياً محضاً، أو أخروياً محضاً أو جامعاً بين الدنيا والآخرة؛ ولكن محبة الله عز وجل جمعت هذه الثلاثة الأسباب، فمحبة الله تكون لسبب ديني محض وهو: نجاتك في الدنيا والآخرة، وتكون لسبب دنيوي محض فلا سعادة في الحياة إلا بطاعة الله.
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد وتكون جامعة بينهم بما ذكرنا.
أما محبة الله فقد قال العلماء رحمهم الله: إن الأسباب كلها تهيأت من أجلها، فلو أن إنساناً أحب والده لعظيم إحسانه وجليل يده عليه وكريم امتنانه، فكيف بالله جل وعلا الذي ما من طرفة عين إلا وأنت ترفل في نعمة منه لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى؟ إن كانت المحبة للإحسان فأين أنت من إحسان الله؟ وإن كانت المحبة للنعم فأين أنت من نعم الله؟ وإن كانت المحبة لدفع النقم فأين أنت من النقم التي دفعها الله؟ تفكر وتدبر لو أنك في يوم من الأيام قد ضاقت بك السبل وتعسرت عليك الأسباب في دين أو كربة أو هم من الدنيا أو حاجة، فاحتجت إلى من يعينك ويساعدك، وإذا برجل وفي يدنو منك في تلك الساعة العصيبة فمد لك يد المساعدة، وأعطاك ما تحتاجه، لو أن عبداً فعل ذلك لأسرك بمعروفه، ولأصبحت تتحدث بذلك المعروف وتثني عليه ليلاً ونهاراً، وعشياً وإبكاراً، وتثني عليه أمام أبنائك صغاراً وكباراً، فأين نعم الله؟ وأين منن الله؟ كم من كربة فرجها الله عنك، وكم من كربة في ظلمات الليل جاءك السقم والمرض وحولك الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، فتألمت وتأوهت، ونظرت يميناً ويساراً فلم تجد معيناً سواه، ولا مجيراً عداه، ولا مغيثاً غيره جل في علاه، فقلت: رباه! رباه! فناديته بقلب لا يعرف سواه، وتعلقت به سبحانه وتعالى، وفي لحظة واحدة آتاك رحمته، وأسداك منته، ففرج عنك الكرب الذي تألمه، وأزال عنك البلاء الذي تجده، فهل ذكرت معروفه يوماً من الأيام؟ وهل أثنيت عليه أمام الأنام؟ وهل ذكرت فضله تبارك الله رب العالمين؟ أحبتي في الله! ليس هناك محبة أصدق من محبة الله عز وجل، وليس هناك أحد يحب على الحقيقة كمحبة العبد لربه، ومهما أحببت شيئاً فأنت مغالٍ فيه إلا الله تبارك الله رب العالمين، فإنك مهما أحببته وأجللته، ومهما أعظمته وأكبرته، فأنت المقصر في حقه سبحانه وتعالى.
محبة الله عز وجل لها أمارات ولها دلائل وعلامات بيّنها العلماء رحمهم الله، ومن أحسن من عبر عن تلك المحبة أحد العلماء رحمهم الله بقوله: (تحصل محبة الله بفعل واجباته وترك مخالفته، فإذا تهيأ للعبد ذلك كان محباً لله) إذا اجتمعت الخصلتان في العبد -فعل فرائض الله وترك محارم الله- فهو حبيب الله عز وجل.
قال بعض العلماء: (يستدل على محبة العبد لله بتوفيق الله عز وجل للعبد لطاعته) وبمقدار ما يقصر العبد في الواجبات وبمقدار ما يقع في فعل المحارم والمنكرات كلما كان ذلك نقصاناً في محبته لله عز وجل، ولذلك ما استقرت محبة الله في قلب عبد إلا وجدته أنشط ما يكون لفعل فرائض الله، وأبعد ما يكون عن حدود الله ومحارم الله عز وجل، فمن أحب الله انتظر في كل لحظة أمراً من أوامره حتى يلبي ذلك الأمر، وانتظر في كل لحظة من لحظاته نهياً من النواهي حتى يتقرب إلى الله عز وجل في ترك ذلك المنهي.
لذلك أحبتي في الله! دلائل محبة الله في هذين الأمرين، وفي تحقيق هاتين الخصلتين: فعل فرائض الله وترك محارم الله، وكلما وقف الإنسان أمام فرضٍ من فرائض الله أو أمام حدٍ من حدود الله فليعلم أنه ممتحن في محبة الله عز وجل.
أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي -بعد محبة الله- أشرف مأمول وأعظم محصول، من وفقه الله لمحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد وفقه لطريق من طرق الجنة، فما أحب عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعطش لسنته وتلهف لاتباع أثره، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه هي الطريق الوحيد إلى الجنان والفوز بالرضوان؛ ولذلك كما قال بعض العلماء: (إن الله أقفل كل السبل المفضية إليه إلا سبيلاً واحداً وهو الطريق الذي اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم) وقد أشار الله عز وجل إلى هذا المعنى في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] إذا أردت أن تعرف مقدار محبة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى حرصه على السنة علماً وعملاً ودعوة وتطبيقاً؛ ولذلك قال العلماء: (أصدق الناس في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة، العاملون بها الداعون إليها) فإذا أردت أن تعرف صدق محبة الإنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى خصاله وانظر إلى خلاله، وزِنها بخلال النبي صلى الله عليه وسلم وبآدابه، فإن وجدته يترسم نهجه ويقتفي أثره ويتعطش لمعرفة سنته، فوالله إنه الحبيب ونعم الحبيب، والقريب من الله ونعم القريب؛ لذلك فإن أول ما يعتني به المؤمن الصادق في محبة النبي صلى الله عليه وسلم معرفة السنن والبحث عنها والحرص على العمل بها وتطبيقها، والدعوة إليها ما استطاع لذلك سبيلاً.
حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما توضأ إلا وتذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ولا مد كفه بالماء ولا أدارها على عضو إلا وهو كأنه يلاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه يتوضأ كوضوئه ويغتسل كغسله، حتى إذا دنا من صلاته وعبادته تذكر هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيامه في قراءته في ركوعه في سجوده في دعائه فأخذ يحدوه ويقتفي أثره حذو القذة بالقذة، والله إنه لتوفيق للعبد إذا أراد الله له خيري الدنيا والآخرة أن يلهمه محبة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا أصاب الإنسان هذه الخصلة الكريمة وهي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، جاءت الثمرة المباركة، فصار لا يمسي ويصبح إلا وقلبه معلق بالله، يقوم لله، ويقعد لله، ويتكلم لله، يراقب الله في حركاته في سكونه في أنفاسه في كلماته، ويترسم كل شيء فيه محبة الله حتى إذا بلغ إلى هذا المقام الشريف وهذا المنزل المنيف وأصاب محبة الله عز وجل، وأصاب رضوان الله سبحانه وتعالى، عندها تأتي الثمرة الثانية التي هي ثمرة محبة الله عز وجل، قال بعض العلماء: (ما أحب مؤمن ربه إلا تعلق بالله في كل شيء يفعله ويقوله) ولذلك أُثر عن القاضي الإمام الجليل الحافظ ابن دقيق العيد رحمة الله عليه: أنه قضى في قضية فراجعه رجل قضى عليه الإمام في تلك القضية، فقال له الرجل: والله ما أنصفتني، ولقد جُرت في حكمك، فقال الإمام الحافظ رحمة الله عليه: أتقول ذلك؟ فوالله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل) وهذا إنما يكون من كمال المحبة لله عز وجل؛ ولذلك ذكر بعض العلماء في شرح هذا الحديث: (إن المؤمن إذا عمر قلبه بمحبة الله جاءت الثمرة الثانية وهي أن يحب حبيب الله ويعادي عدو الله، يصبح قلبه ويمسي لا يُقرب إلا من قربه الله، ولا يبعد إلا من أمره الله عز وجل بإبعاده، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأن يحب الرجل لا يُحبه إلا لله).