وأما الموقف الخامس من مواقف هذه الدار فهو: الاجتياز على الصراط -أي: المرور على الصراط-، فمن شدّته وهوله ما يجعل العبد داعياً لنفسه أن يُعد العدّة للقاء ربه في ذلك اليوم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يضرب الصراط على متن جهنم، وينادى العباد: أن مروا عليه، وكل يمر بقدر عمله) وصح في الحديث -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تقول النار: جُزْ يا مؤمن، جز يا مؤمن، فقد كاد نورك يطفئ لهبي) نور الطاعات نور القربات نور الصلاة نور ما تحبب به إلى الله تبارك وتعالى في ليله ونهاره، إنها الطاعات التي بقيت بعد الممات شافعة وموجبةً لنجاة العبد بين يدي الله تبارك وتعالى.
وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يزال المؤمن في هم وغم وكرب، حتى يخلِّف جسر جهنم وراء ظهره) هذا الجسر الذي ورد أن العبد يجوزه حتى يصل إلى منتصفه فتخطفه كلاليب النار والعياذ بالله، بذنبٍ أصابه أو بحدٍ انتهكه، فالله عز وجل أراد أن يُطهره بالنار من ذلك الذنب بسبب نفاق في قلبه أو رياءٍ في عمله، أو نفسٍ أراق دمها، أو حُرمة انتهكها أو زنية أصابها، أو كأس خمر شربها، يعذب بالنار على قدر تلك الإساءة ويُكبكب فيها -والعياذ بالله- على قدر ما أصاب من حدود الله دعوى الأنبياء في تلك الساعة الرهيبة: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم.
ومن صفات هذا الصراط: أنه أرقّ من الشعرة، وأحد من السيف، يمرُّه المؤمن كالبرق الخاطف بسبب تلك الطاعات التي تحبب بها إلى الله تبارك وتعالى، إن من عمَّر الليالي والساعات واللحظات بذكر الله تبارك وتعالى وبمحبة الرحمن، واشتغل بذكر الديان، وأصبح يراقب الله في حركاته وسكناته، كل ذلك يشفع له من تلك الأهوال وينجيه من ذلك الفزع، ولن يخيب عند الله سعيه، ولن يضيع عند الله عمله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] كيف يضيع الله من كفل الأيتام وقام على الأرامل ورعى ضعفة المسلمين؟ كيف يضيع الله من فرّج الكربات؟ كيف يضيع الله عبداً فرّج الكربات وتنافس في المرضاة وتسابق إلى الطاعات؟! كيف يضيع عند الله سعيه؟ أم كيف يضيع عند الله عمله؟ إخواني! إن التجارة مع الله رابحة، فلنعدها للقاء الله.
إن ذكر هذه المواقف ليست قصة تذكر، وليست موعظة تمر؛ ولكنها لكي تحرك النفوس للقاء الله، وتحركنا أن نتذكر ونتبصر فيم يمضي الليل والنهار؟ فإلى متى ونحن عن الله غافلون؟ وإلى متى ونحن عن رحماته بعيدون؟ إلى متى ونحن عن هذه المواقف المفزعة المرهبة غافلون؟ إن هذه المواقف توقظ القلوب النائمة وتنبه القلوب الحائرة للمسير إلى العلي الكبير، تنبهها من هذه الغفلة التي طفقت بسبب وساوس الشيطان وخطراته، فكم للشيطان من مصائد أعدها لأولياء الله المتقين من التسويف في التوبة والتأخير في الإنابة والحوبة.
لذلك إخواني! أدعوكم إلى التفكر في مثل هذه المواقف، والقرآن قصة حقيقية، ذكر الله تبارك وتعالى فيها مشاهد الآخرة وقص فيها خبرها، يعيها ويتذكر بها ويتبصر بها من أحيا الله قلبه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
سئل رجل من السلف -وكان رجلاً صالحاً مجداً في طاعة الله تبارك وتعالى، فكان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ولا يأتي ثلث الليل الآخر إلا وهو قائم بين يدي الله يتهجد- قالوا له: كيف أصبت هذه النعمة العظيمة من الله تبارك وتعالى؟ فقال: صورت نفسي أنني في نزعات الموت، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا فأزداد من صالح العمل، ثم صورت نفسي كأنني في ضجعة القبر، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا فأزداد من صالح العمل، ثم صورت نفسي وقد حُشرت ونشرت وبُعثت بين يدي الله عز وجل ووقفت، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا، وأزداد من صالح العمل، فقلت: يا نفس، هذه الدنيا وهذه الأمنية التي ترضَين، فجدي واجتهدي في مرضاة الله تبارك وتعالى.
فانظر كيف كان السلف يشغلون القلوب بذكر الآخرة؛ لأن ذكر الآخرة حياة للقلوب، وتدعوها إلى المسير إلى الله، وتدعوها إلى أن تكون واعية، لم خلقها الله عز وجل وأوجدها؟ إذا وعت ذلك، حينها تستريح نفس المؤمن بطاعة الله تبارك وتعالى وتنفر من معصيته.
إن هذه المواقف ذكرها حياة للقلوب، ودعوة للإقبال على علام الغيوب إن ذكر الآخرة دعوة لكي نحيي القلوب بذكر الله تبارك وتعالى، ونعمُر الأيام والليالي بمحبة الله قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه} [الحديد:16] إلى متى والإنسان في غفلة؟ إلى متى وهو في تسويف من طاعة الله؟ مهما بلغنا من الطاعات فإن وراءنا طاعات وقربات، والله أجل وأعظم مما نتصور إن وراءنا من الخيرات والطاعات التي فتح الله عز وجل أبوابها وسهل السبيل إليها لهذه الأمة ما لم نصبه وما لم نصل إليه في يوم من الأيام.
إخواني في الله! ذكر هذه المواقف فيه دعوة لنا أن نقبل على الله تبارك وتعالى، وآخر ما يوصى به العبد من ذكر هذه المواقف: أن تكون الآخرة زاجرة له عن حدود الله وعن كل ما لا يُرضي الله تبارك وتعالى، إن الذي يعي حقائق الآخرة ويعلم أنه سيرتحل في السفينة الماخرة للقاء الله عز وجل بعيدٌ عن محارم الله التي بينه وبين ربه، وعن محارم الله التي بينه وبين عباد الله تبارك وتعالى، أما اللسان فقد كبح جماحه عن أن يتعدى حدود الله، وأما الأعضاء فقد سخرها في محبة الله ومرضاته.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بذكر الآخرة، وأن يجعل أسعد اللحظات وأعزها وأشرفها لحظة الوقوف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.