الأسباب التي تلين لها القلوب

Q بسم الله الرحمن الرحيم، يقول السائل: إني أمر بحالة عظيمة من قسوة القلب, فأسألك يا شيخ أن تدعو لي.

ويقول الآخر: هلا وضحت بعض الأمور التي من خلالها يجد العبد لذة العبادة بين يدي الله تبارك وتعالى؟

صلى الله عليه وسلم باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قلوباً رقيقة لذكره وشكره, اللهم إنا نسألك قلوباً ترضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام, نسألك أن ترقق قلوبنا, وأن تعيذنا من قسوة القلوب.

أما ما سألت عنه -أخي في الله- من قسوة القلب, فإن من أعظم الأسباب التي تلين لها القلوب: أن يكثر الإنسان من الدعاء, ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله جل وعلا أن يعيذه من القلب القاسي, ففي الحديث الصحيح أنه قال: (اللهم إني أعوذ بك من عين لا تدمع, ومن قلب لا يخشع, ومن دعاء لا يُسمع, ومن علم لا ينفع, أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فسل الله أن يعيذك من قسوة قلبك.

أما الثانية: فابحث عن الأسباب التي قسا بها قلبك, فتش عن ذنوبك بينك وبين الله, وفتش عن حقوق الله التي أضعتها, وحدوده ومحارمه التي جاوزتها وانتهكتها, فلعل صلاة أضعتها صعدت إلى السماء فقالت: ضيعك الله كما ضيعتني.

فاستغفر الله ثم تب إلى الله وأنب إليه جل جلاله.

أما الأمر الثالث بعد الدعاء والبحث عن الأسباب التي تقسي القلوب من حقوق الله: كذلك حقوق العباد, فقد يكون هناك مظلوم ظلمته, أو محروم حرمته, فرفع كفه إلى ربه جل وعلا فاستجاب الله دعوته, وقال الله لدعوته: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) فأصابتك دعوة الرجل الصالح, فاسأل الله عز وجل أن يغفر لك, وأن يذهب عنك ذنوب ما كان من آثار ذنوب العباد وظلمهم, وفتش عن حقوق الناس فيما بينك وبين أهلك وأولادك وزوجك وجيرانك وأرحامك, فتش عن نفسك فلابد من وجود أمر: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فاتق الله في نفسك وفيمن ولاك الله من أهلك وولدك وغيرهم.

الوقفة الرابعة: خذ بالأسباب التي ترقق القلوب ومن أعظمها أن تكثر من ذكر الآخرة, فالقلب لا يقسو إلا من الدنيا, والدنيا لا يذكرها الإنسان إلا إذا طال أمله وأصبح يؤمل فيها الآمال, ولا يطول أمل الإنسان إلا من طالت غفلته عن الآخرة والعياذ بالله, ولا تطول غفلة الإنسان عن الآخرة إلا إذا قلل من ذكرها, فأصبح العلاج أن تكثر من ذكر الآخرة, فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, فهذه من أعظم الأسباب: قصر الأمل في الدنيا, فإنه يعين على رقة القلوب, وكثرة ذكر الموت والبلاء, وقرب المصير إلى الله جل وعلا, كل ذلك مما يرقق القلوب.

ومما يرقق القلوب: أن تشيع الجنائز، وأن ترى ما هي سائرة إليه من عذاب أو جوائز, أن تشيع الجنائز وتعيش مع أهلها حتى إذا غادروها نظرت إليها وحيدة فريدة قد تولى عنها الآباء والأبناء والإخوان والأصدقاء, فأصبحت رهينة القول والعمل، فدعاك ذلك إلى أن تنيب إلى الله جل وعلا فيرجف قلبك من خشية الله, وتذهب عنه القسوة.

ثم كذلك مما يعين على رقة القلوب: زيارة المرضى، والنظر في أحوالهم, واسمع بأذن واعية إلى ما هم فيه من الآلام والأسقام، وسل الله العافية, انظر إلى تلك الأجساد التي كانت تتمتع بالصحة والعافية، رجل كالجبل, فيضربه الله بنقمة من النقم يخر صريعاً لا يستطيع أن يبرح مكانه, لا إله إلا الله ما أعظم سطوة الله بالعباد! ولذلك النظر في نقم الله في العباد وبلاياه وما ينزله بهم وهو الحكم العدل جل جلاله من أعظم الأمور التي ترقق القلوب, فإن هذا الأمر إذا رأيته خفت أن تكون لك عاقبة مثل عاقبة هذا الرجل, فإن العبد تراه غنياً ثرياً ظالماً غاشماً حتى يضربه الله بمرض في قلبه أو في مخه أو في قدمه, ولا يستطيع أن يبرح فراشه، يئن كما يئن الطفل الصغير, ينسى أهله, ينسى أولاده, ينسى ماله, والله لو خير في لحظات شدة الألم بين جميع التجارات التي جمعها في حياته لدفعها، وأصبحت نفسه أحقر ما تكون وأهون ما تكون عليه, فلذلك ينبغي للإنسان أن يقف في هذه المواقف لكن لا يقف بقلب غافل، بل يقف وهو معتبر, متبصر مدكر.

كذلك أيضاً مما يرقق القلوب: الإحسان إلى الناس, الإحسان إلى الأيتام، إلى الأرامل, ابحث عن جيرانك, فإن وجدت فيهم أرملة فاقتحم العقبة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:12 - 16] ثم تكون بعد ذلك من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة, كن منهم بهذا القلب الرقيق, هذه من الأمور التي تعين على رقة القلوب, تأتي إلى الأرملة في شدة حاجتها فتعطيها مالاً من عنائك, وكد يدك، وهو عزيز عليك تعطيه احتساباً لوجه الله جل وعلا, في ظلمة ليل أو ضياء نهار, ويريد الله أن تلك اللحظة تفتح فيها أبواب السماء فترفع تلك الأرملة لك كفاً فتستجاب دعوتها, فأحسن إلى الناس فإن الإحسان إلى الناس من الأمور التي ترقق القلوب, وقلّ أن تجد إنساناً كريماً جواداً محسناً إلا وجدته أرق الناس قلباً, ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الراحمين يرحمهم الله.

كذلك أيضاً: خذ اليتيم وامسح برأسه, فإن اليتيم فقد أباه, ويعيش في هذه الحياة بدون أب, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المسح على رأس اليتيم من الحسنات والقربات؛ لأنك لما تمسح على رأسه تسد الثغرة التي في قلبه, لما تمر يدك على ذلك الرأس الذي فقد الحنان وعاش في هذه الحياة كأنه وحيد, فتشعره كأنك أباً ثانياً، فإن هذه المسحة تقع عند الله بمكانة، والله يحب الحسنة ويحب الخير ويشكره, ولا يضيع العرف بين الله والناس, لا ينسى الله جل وعلا الحسنات, ولا ينسى ما يكون من العبد من إسداء الخير إلى البريات, فأحسن إلى الناس فإن ذلك مما يعين على رقة القلب.

نريد رقة القلب ونحن أبخل الناس يداً! ونحن أكثر الناس تكبراً وتعنتاً! ونحن أفظ الناس وأغلظهم قولاً! لا شك أن هذه الأمور تحتاج إلى مجاهدة وإلى عمل صالح وإلى قربة, ولذلك وصف الله المؤمنين بماذا؟ قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] المؤمن ذليل لكن هذه الذلة عزة عند الله عز وجل, لما تكون سهلاً ميسراً يرق قلبك, لكن لما يأتي الإنسان فيتعاظم على الناس, ويفتخر عل الناس، ويتعالى على الناس لا يزال يهوي -والعياذ بالله- في سفال حتى يمقته الله جل وعلا, وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) والعياذ بالله.

فنسأل الله العظيم أن يرزقنا رقة القلوب, والله تعالى أعلم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015