أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، من الإلف والقرب من الناس، كان الصغير يحس كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكان الفقير يشعر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكان الحقير من الناس وغيرهم من عامتهم الذين لا جاه لهم ولا قوة يحسون بقربه صلوات الله وسلامه عليه، كان موطأ الكنف، وكان صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وشمائله يجذب الناس إلى علمه، وما قذف الله في قلبه من النبوة والرسالة، يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه واصفاً النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من طلاقة الوجه، وديمومة السرور قال رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) فإذا تبسم العالم فإن هذه الابتسامة كريمة وثقيلة في قلوب الناس؛ لأنها تدل على التواضع والكمال والفضل، وتدل على أنه قريبٌ من الناس، فالعالم يحمل هموماً لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ولكنه إذا تبسم تبسمَ الواثق بما عند الله سبحانه، يتبسم كتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ليشتري بها رحمة الله ومرضاته، لا يتبسم للدنيا، ولا يتبسم للجاه ولا للسمعة ولا للرياء، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله: كان صلى الله عليه وسلم يأتيه الرجل -بطيشه وخفته وحمقه- فيجذبه من ردائه صلوات الله وسلامه عليه، فما هو إلا أن يصرف وجهه إليه فيتبسم -ولا يلقى العنف بالعنف، ولا يرد السيئة- بالسيئة صلوات الله وسلامه عليه إذا كملت فضائل العالم وكملت أخلاقه، طابت أقواله وأحس من كان قريباً منه بفضله ونبله، قال أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وهو يبين لنا هديه عليه الصلاة والسلام، وخلقه الكامل الفاضل: [لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي يوماً قط أف] صلى الله عليه وسلم.
إذا كمل العالم كملت أخلاقه وآدابه، وشمائله وفضائله، فقد أوصى العلماء وأهل العلم أن يكونوا كذلك، فإذا تواضع العلماء ملكوا قلوب الناس، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي تعين على حب الدين والقرب منه وإلف العلماء والقرب منهم يعين على خيرٍ كثير.
إن كريم الأصل كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى وينبغي على العالم أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خلقه، سواءً كان مع العدو أو الصديق، مع الصغير أو الكبير، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بكاء الصبي في الصلاة أشفق على أمه فخفف في صلاته، ولما تكلم معاوية بن الحكم رضي الله عنه في الصلاة، قال معاوية: (فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كهرني ولا شتمني ولكن قال: من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقلت: أنا يا رسول الله قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... ) الحديث فكان صلى الله عليه وسلم يتعاطى أسباب التأثير في الناس، فالتواضع خلق لا بد للعالم أن يتخلق به، وإذا تواضع العالم استطاع المهموم والمغموم والمحزون والمكروب أن يبث حزنه، وأن يبدي ما عنده من الهم والغم، فإذا وجد العالم موطأ الكنف أحس أنه كوالده، وأنه سيشفق عليه ويرحمه أكثر من رحمة الأم بولدها؛ لأن رحمة العالم نابعةٌ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي نابعة من الدين، وأما حنان الأم وعطفها فنابعٌ من الدنيا، وشتان ما بينهما، ولذلك كان بعض أهل العلم يقول: أستحب للعالم ألا يبالغ في لباسه، فلا يبالغ في التجمل؛ لأنه إذا بالغ في التجمل والزينة ولبس غالي الثياب، احتقر الفقير نفسه إذا جلس بين يديه، وأستحب له أن لا يتبذل في ثيابه، فإذا جاء الغني ترفع عن سؤاله، ولكن يكون بينهما واسطة، حتى إذا رآه الفقير ألفه، وإذا رآه الغني ألفه فالوسط خيرٌ ومحمودٌ في الأمور كلها.