أولاً: تقوية الإيمان بالقدر، بأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف بما هو كائن، وليتذكر أنه وهو جنين في بطن أمه كتب معه رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وكل ما يصيبه قد كتب ولا تغيير في ذلك.
ومن قوي إيمانه ثبته الله سبحانه وتعالى عند الابتلاء والمحن، لقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وتقوية الإيمان سبب للثبات والأمن كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ولا شك أن من كان أقوى إيماناً كان أثبت عند المحن والبلاء.
ولننظر إلى سحرة فرعون الذين كانوا قبل إيمانهم أشد الناس عداوة لله ولرسله، وأبعدهم عن مقامات أهل الإيمان، ولكنهم أخلصوا لله في تلك اللحظة، فتعرضوا لمحنة فنجحوا وثبتوا وصبروا، فقذف الله في قلوبهم من الإيمان والعلم الشيء الكثير جداً، ولذلك حين ضغط عليهم فرعون وهددهم بأنه سيقتلهم ويصلبهم في جذوع النخل، وسيهينهم بأنواع الإهانة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72]، فعرفوا أن الله هو الذي فطرهم فآمنوا به، وحققوا ذلك وأقسموا به تأكيداً.
فانظر إلى الحال الذي وصلوا إليه من الإيمان الآن، بعد أن كانوا يقولون قريباً: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، فقد كانوا يقسمون قبل ثوان بعزة فرعون، وهم الآن يقولون: {وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، فعرفوا أن ملك فرعون وما يهدد به كله من أمور هذه الدنيا الفانية الزائلة التي لا تدوم، ومن هنا فهم راغبون فيما في الآخرة من الأمور الدائمة الخالدة التي لا انقطاع فيها، لهذا قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:72 - 73].
فقد عرفوا الله بصفاته فعرفوا أنه هو الذي يغفر الذنب ويقبل التوب عن عباده: {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، ووصفوه بصفات الكمال والجلال: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75] وهاتان الجملتان هما خلاصة علم الأولين والآخرين، فعلم الأولين والآخرين يدور على هاتين النقطتين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:74 - 76].
فغاية ما يصل إليه المخلوق من العلم أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى وبشرعه وثوابه لمن أحسن وعقوبته لمن أساء، وأن يؤمن بالمصير إليه وبجنته وناره، فذلك خلاصة علم الأولين والآخرين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75] قذف الله كل هذا العلم في قلوبهم في هذه اللحظات عندما ثبتوا وآمنوا، وهذا ما لا يتوصل إليه الدارسون والباحثون في السنوات العديدة.