سادساً: تذكر سنن المرسلين وأتباعهم: فإذا تذكر الإنسان أن أنبياء الله وهم أكرم الخلق على الله، وأعلاهم قدراً ومكانة، قد ابتلوا بأنواع البلايا والمحن فصبروا وصمدوا؛ تذكر أنه ما هو إلا حلقة صغيرة من سلسلة طويلة فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن على آثارهم من المتقين والمخلصين في كل زمان ومكان، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها، ومن هنا فهو يرحب بتلك النكبات لأنها أصابت من هو خير منه، وهي نكبات مباركة، فيلتمس فيها البركة لأنها قد أصابت أنبياء الله المباركين، وقراءة الإنسان لسيرهم وقصصهم الواردة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبلغ ما يعين على الثبات.
وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حكايات الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده.
ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، وذلك في خواتم سورة هود بعد أن قص الله فيها قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة إبراهيم وقصة لوط وقصة شعيب وقصة موسى وهارون، فكل ما أصابهم من قبل يثبت فؤاد المؤمن، لعلمه بأنهم أكرم على الله منه وخير منه، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن لا يصيبهم ذلك البلاء، ولو كان عدم إصابة البلاء خيراً لاختار الله ذلك لأنبيائه، ولكنه علم أن البلاء خير لهم فاختاره لهم، ومن هنا فإذا أصابك شيء مما أصاب الأنبياء فاستقبله بما استقبله الأنبياء.
وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم (أنه كان يقسم غنيمة يوماً فدخل عليه رجل أشعث أغبر، ثائر الرأس مشمر الثياب غائر العينين فقال: اعدل يا رسول الله، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله، ثم ابتسم وقال: رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فتذكر أذى بني إسرائيل لموسى وهم يعلمون أنه رسول الله، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:5].
وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله أخي يوسف! لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته)، فيوسف عليه السلام مكث في السجن ما مكث، ثم أتاه الداعي من الملك يدعوه للخروج إليه فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، ولم يستعجل في الخروج من السجن حتى تظهر براءته، وحتى تقر النسوة بما سمعن من امرأة العزيز، فكان ذلك من الثبات وعدم الاستعجال، وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم في قوله هنا: (رحم الله أخي يوسف لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته).
وكذلك تذكر حال أتباع المرسلين في كل زمان، وما ثبتهم الله به من الصبر في المحن والبلايا، وبالأخص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين حققوا أروع الأمثلة، فهذا خبيب رضي الله عنه عندما صلبته قريش وهو حي على الخشب قال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع وهكذا أتباعهم من بعدهم والقرون الفاضلة من هذه الأمة، وقد برز فيها من النماذج من الصابرين الشيء الكثير، ومن هذه النماذج الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد صبر على المحنة والبلاء ثماني عشرة سنة وهو صامد ثابت تحت السياط وفي الأغلال والحديد يعذب ليقول كلمة واحدة فلم يقلها، وصبر على مبدئه وثبت عليه حتى فرج الله تلك الغمة وأزالها عن الأمة، وقد ذكر أنه مما أعانه على الثبات في فتنة محنة خلق القرآن أن شيخاً كبيراً من أهل العراق أتاه وهو في الحديد يساق إلى السياط فقال له: يا أحمد أنت اليوم رأس في أهل الإسلام فاتق الله فيهم؛ فإنك إن أجبت أجاب من وراءك، فكان ذلك من وسائل ثباته، وتذكر الإنسان لمسئوليته عمن يأتي بعده معين له على هذا الثبات.
ولذلك فإن المودودي رحمه الله عندما أطلق الرصاص وهو قائم يخطب فقال له الناس: اجلس؛ قال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟ إذاً: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتذكرها الإنسان في حال البلاء: أن يتذكر: إذا جلست أنا فمن يقوم؟