نحن اليوم في زمان الغربة، وفي زمان ضعف الدين وتراجعه، ولم يأتنا هذا من جهالةٍ، بل أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق بذلك، وأخبرنا أن هذا الزمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وأخبرنا بهذه الفتن التي تموج كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا.
وأخبرنا أن هذه الأزمان تكثر فيها الفتن وتنتشر، ويكثر فيها الهرج، ويرفع فيها العلم ويكثر الجهل، كل ذلك أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكنه أخبرنا عن الاستمساك فيها وما ينجي منها، فأخبرنا أن النجاة بهذا الحبل المتين المستقيم الذي هو حبل الله، من استمسك به عصم، ألا وهو القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
وهذه السنة المبينة للقرآن التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين بها القرآن أتم بيان، فمن استمسك بهما عصم، ومن تركهما قصم الله ظهره، وانهوى على وجهه في النار، لذلك فإن الذي يتوقف عن العمل لنصرة الدين رجاء هذه الآمال الكاذبة مغرور ويخشى عليه من الخذلان، يخشى عليه من الخذلان حين يطيل الأمل ويتبعه، وتُمنيه النفس الأماني فينقاد لها، ويأتيه الشيطان كي يدعوه إلى بنيات الطريق ويقول له: وتكونوا من بعدها قوماً صالحين.
حينئذٍ يغتر بأعماله التي يقوم بها، وينسى ما كلف به، وينسى ما أسلف وما فرط فيه من جنب الله فيما مضى من عمره، فيا ليت هؤلاء انتبهوا قبل أن يقعوا في الهاوية، وقبل أن توصد عليهم النار الحامية، يا ليت هؤلاء انتبهوا وأدركوا أن بقية العمر ما لها ثمن، ولذلك يقول الحكماء: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.
كل شخصٍ منا يعلم أن ما مضى من عمره قد ضيع، وأن بقيته لا يدرى متى تنقضي، فعمر ضيع أوله جدير بأن يحفظ آخره، فعلى الشخص حينئذٍ أن يحقق عهده مع الله الذي أخذه عليه، وأن يبدأ بنفسه ويحاول الإنطلاق بما أتاه الله من قوة، ويعلم أن الحرب القائمة سنة كونية وذات تاريخ طويل مستمر، فمنذ بعث أول رسولٍ إلى أهل الأرض وهذه الحرب قائمة بين الحق والباطل، يكون للباطل فيها بعض الصولات ولكنه يضمحل في النهاية، ويورث الله الأرض عباده المؤمنين المتقين، وبعدها تأتي صولة أخرى للباطل ثم يضمحل، وهكذا دواليك.
إن الحرب قائمة على ساقها، ونازعة بأشدها، ونحن نشهدها في مختلف مجالات الحياة، نشهدها في مجال الاعتقاد، وفي مجال العمل، وفي مجال الاقتصاد، وفي مجال السياسة، وفي مجال الثقافة، وفي غير ذلك من المجالات، وفي بناء البيوت والمجال الاجتماعي الحرب شعواء على دين الله، وقبل ذلك نُبِذَ فيها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في كثير ٍمن المجتمعات الإسلامية -إلا من عصم الله- وراء الظهور، وفي مجال الثقافة والعلم أصبح الناس يرجعون إلى مراجع مخالفةٍ لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقدمونها على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.