هذه خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواعظه وإرشاداته تتأثر بحسب السائل، كأن يأتيه رجل فيسأله مع خير العلم خير الإيمان، فإذا كان قوياً بطلاً أمره بالجهاد، وإذا كان ذا والدين ضعيفين أمره ببر الوالدين، وإذا كان من الأغنياء أمره بالإنفاق، وهكذا، ولهذا تجد في الأحاديث الصحيحة كثيراً من الأحاديث التي يفهمها بعض الناس على التعارض، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الإيمان كذا) أو: (خير الإيمان كذا)، أو يسأل عن خير الإيمان فيجيب جواباً، ثم يسأل عنه فيجيب جواباً آخر، وهذا ليس من التعارض في شيء، إنما هو بحسب حال السائل، ولهذا يقول البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عمرو بن خالد قال: أخبرنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور.
قال: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها على أهلها وأغلاها ثمناً)، وهذا يدلنا على أن الجواب بحسب حال السائل، وهذا من الفقه في الدعوة.
وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة يأتيه رجل فيقول: يا ابن عباس! هل للقاتل عمداً من توبة؟ فيقول ابن عباس: لا.
وفي مجلسه ذلك يأتيه رجل آخر، فيقول: يا ابن عباس! هل للقاتل عمداً من توبة؟ فيقول: نعم.
فقيل له: سبحان الله! كيف أفتيت الأول بهذا وأفتيت الثاني بهذا؟! فقال: رأيت في وجه الأول الشرر يتطاير من عينيه فعلمت أنه يريد القتل عمداً فنهيته عن ذلك، ورأيت في الثاني انكساراً وتوبة وندماً؛ فعلمت أنه قد قتل وجاء تائباً، فما أردت أن أسد باب التوبة أمامه.
فهذا من فقه الدعوة، وعلى الناس أن يأخذوا به، وأن يضعوا كل شيء في موضعه.