بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله عز وجل قد وصف نفسه بالدعوة، فقال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221].
ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، وأخبر أن أحسن الأقوال وأرضاها عند الله سبحانه وتعالى: الدعوة إلى الله، وذلك كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وأتباعه بأن سبيلهم الدعوة إلى الله، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
وهذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، فكما يحتاج البشر إلى الماء والغذاء والهواء، فإنهم يحتاجون كذلك إلى تغذية قلوبهم، فهذه القلوب إذا لم تتغذ ماتت، وموتها أشد من موت الأبدان؛ لأنه مقتض لغفلتها وإعراضها عن الله سبحانه وتعالى، فتتردى حتى تكون كالبهائم، أو ربما زادت عن ذلك، كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، ولا يستغني عنها أحد، والله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، ويخاطب رسله عليهم الصلاة السلام بذلك أجمعين فيقول: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، ويخاطب عباده المؤمنين بذلك، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172])، وكل ذلك دعوة من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يستغني عنها البشر، فالإنسان يعيش في ظلمات الجاهلية في هذه الأرض، وكل ما فيها فتن تغويه وتصده عن سبيل الحق، وهو بمثابة من ادهن بالزيت، ثم رمى نفسه في التنور، ففتن الدنيا كذلك تحيط به من كل جانب، وأعراضها تتداول عليه وتتناوب، فإذا نجا من عرض لم ينج من غيره، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك: حين خط خطاً مربعاً وخط خطاً في وسطه خارجاً منه، وخط خطاً معترضاً في الوسط، وخط خطوطاً صغيرة في الطرفين، ثم قال: (هذا الإنسان، وهذا أجله، وهذا عمله، وهذه الأعراض تصيبه، وأمله أطول من أجله).
ومن هنا فإن على الإنسان أن يحاول أن يعتبر ويتذكر، وأن لا يغفل عن الله سبحانه وتعالى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليعلم أنه إن غفل ساعة عن الله دعاه ذلك إلى الغفلة ساعات، وإذا قسا قلبه يوماً واحداً فليداو هذه القسوة، وإلا فسوف تتراكم فيه القسوات وستزداد، ويصعب عليه حينئذ علاج قلبه بعد ما يتمكن منه المرض.
ومن هنا شرع الشارع لنا الموعظة الأسبوعية في كل جمعة، ويراد بها أن ترق القلوب وتهفوا إلى بارئها ديان السماوات والأرض، وإذا لم يستطع الإنسان أن يجري دمعتيه من خشية الله سبحانه وتعالى في الأسبوع، فإنه سيزداد ذلك صعوبة في الأسبوع الذي يليه، ثم يزداد ذلك في الأسبوع الذي يليه، ومن هنا فإن من تخلف عن صلاة الجمعة ثلاث جمع على التوالي ختم على قلبه بطابع النفاق.
من أجل هذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ومن هنا كانت هذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، ولا يمكن أن يستغني عنها الناس، وإذا ظن بعض الناس أنه ربما استغنى عنها فهذا دليل على موت قلبه وأنه لم يعد يحس بما هو فيه، فقد تراكمت عليه الأمراض وتكاثرت حتى لم يعد يقدر هذه الأمراض ولا يستطيع الخلاص منها، ونسأل الله السلامة والعافية.