ومن هنا جاء البون الشاسع بين الإسلام وبين ما سواه من الشرائع والتقنينات، فهو دين الله الذي ارتضاه وليس ديناً من الأرض، فليس نابعاً عن قصور في التصور، وليس ناشئاً عن أعراف نشأت في مرحلة محصورة، وليس ناشئاً كذلك عن عقول قاصرة، وإنما هو وحي من عند الحكيم الخبير الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق البشر وعلم أمورهم كلها قبل أن يخلقهم، فشرع لهم من الدين ما يصلح أحوالهم كلها، فشرع لهم من الإسلام ما ينظم علاقاتهم بربهم، وذلك جانبان: الجانب الأول منه: ما ينظم اعتقادهم، ويبين لهم ما تعتقده أفئدتهم فيما لا يمكن أن تصل إليه عقولهم: وذلك أن الله علم أن العقول التي وهبها للناس إنما هي جوارح قاصرة مثل أيديهم وأسماعهم وأبصارهم، فهي عاجزة عن إدراك هذه الأمور، فبينها لهم بالوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى.
الجانب الثاني في التعامل مع الله: هو جانب العبادة التي أصلها الأدب مع الله سبحانه وتعالى وحسن الحياء منه، وأداء ما شرع من العبادات على الوجه الذي يرضيه، وقاعدتها التوقيف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصله عباده بضر ولا نفع، وقد صرح بذلك فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: (ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
ومن هنا فلا يمكن أن يُتقرَب إليه إلا بما شرع، فلا يمكن أن يتعبد الإنسان ويقصد وجه الله تعالى بأمر لم يشرعه له ولم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت منزلاً من عند الله؛ لأن من يمكن أن تنفعه ويمكن أن تضره يمكن أن تتقرب إليه بشيء لم يأمرك به؛ لأنك تعلم أنه يوصل إليه نفعاً أو يرفع عنه ضرراً، ورب البرية جل وعلا لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، فلا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ومن هنا فإن هذا الجانب قاعدته التوقيف والقصر على ماجاء.