Q ما هي المداهنة، وما هي حدودها في الأمر والنهي؟
صلى الله عليه وسلم المداهنة هي بذل الدين لإصلاح الدنيا، أي: أن يبذل الشخص جزءاً من دينه لإصلاح الدنيا، وليس من ذلك ما كان الشخص مكرهاً عليه، فإنه إذا أكره بما يخاف عقوبته لا يعتبر مداهناً، لقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، فلذلك ينبغي أن نعرف أن المداهنة هي بذل الدين لإصلاح الدنيا، كمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل أن لا يستثقل، ومن أجل أن لا يقال إنه ثقيل، أو من أجل أن لا يوصف بأوصاف بذيئة، فكثير من الناس يريد أن يتخلص من الأوصاف القبيحة لدى الآخرين بأن يترك جزءاً من دينه فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا يقال فيه كذا من الأوصاف الذميمة، والواقع أن ديان السماوات والأرض ذا العزة والجلال الذي خلق الناس وأنعم عليهم وسواهم ومع ذلك زعموا أن له صاحبةً وولداً تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]، {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181].
وكذلك الأنبياء الذين هم خيرة الله من خلقه فإن الناس قالوا فيهم: كذاب، وساحر، ومجنون، وكاهن، وطالب سلطة، وطالب مال إلى آخر ما قالوه.
وقد برأ الله الأنبياء من ذلك، ومن كان يريد أن ينجو مما نجا منه الأنبياء فمعناه: أنه لا يريد أن يسلك طريقهم، وهذا الطريق الموصل إلى الجنة محفوف بالمكاره، فإن الله حين خلق الجنة أرسل إليها جبريل وزينها قبل أن يصل إليها بأنواع الزينة، فلما رآها ورجع إليه سأله قال: هل رأيتها؟ قال: نعم، وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم أمر بالنار فأعدت، فأرسله إليها، فلما رآها، قال: أرأيتها؟ قال: نعم، وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره وأمر بالنار فحفت بالشهوات، فأرسل جبريل فنظر إلى الجنة فرجع فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ورأى النار فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد، وذلك حين حفت بالشهوات.
فلذلك لابد أن يدرك الشخص أن هذا الطريق لابد فيه من كثير من العقبات والمشكلات، وأنه لا يمكن أن يصبر على دينه، فيجمع بين العافية العاجلة والعاقبة الآجلة، ولابد أن يجد بعض الأذى الذي توعد الله به في كتابه، في قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186].