إن هذا الحال حال مزر بهذه الأمة، لا يليق بها بحال من الأحوال، ولا يمكن أن يستمر أبدا، فلابد أن تستيقظ الأمة من غفلتها، وأن تحس بأن كيانها مهدد، وأن مقدساتها قد داسها اليهود، وأن خيراتها قد نهبها النصارى، وأن الإعلام الماكر يروج لكل ذلك، وأن كثيراً من حكامها يواطئون أعداءها، وبقيتهم على الأقل هم في حياد بسبب السبات والغفلة، فليس لهم أية عناية بهذه الأمة ولا بمصالحها العامة، حتى يدخل عليهم في بيوتهم كحال ملوك الطوائف في الأندلس، فكان الفونسو ملك النصارى يستعين ببعض ملوك الطوائف على بعض، فاستعان بحاكم إشبيلية على حاكم طليطلة، فلما سقطت طليطلة استعان بحاكم قرطبة على حاكم إشبيلية، وهكذا بالتدريج حتى قضى عليهم بالكلية.
إن هذا الواقع يعيده التاريخ ويكرره، فاليوم قد أصبح كثير من حكام المسلمين حراساً لليهود ومصالحهم، فيمنعون حدودهم من أن يدخل إليها السلاح، ويمنعون الشعوب المتحمسة التي تريد الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله من الوصول إلى ذلك، بل يمنعون كل من عبر عن رفضه لهذا الظلم السافر، وأنت تسمع عن المسيرة الضخمة التي خرجت في باريس في قلب أوربا، والمسيرة التي سبقتها في ألمانيا تنديداً وإنكاراً لما يفعله اليهود المغتصبون في فلسطين، فهل سمعت أن أحداً ضرب فيها أو أوذي بأي نوع من الأذى؟! بينما لو سمعت عن أية مسيرة في البلاد الإسلامية العربية فستجد الكسر والطعن والنهب وأنواع الأذى، لا لأي سبب غير أن هذه الشعوب لا تستحق أن تعبر عن رأيها، ولا أن تباشر أي عمل تفهم منه أو تشم منه رائحة العزة والكرامة.
إن هذا النوع من التطرف هو الذي يولد التطرف، فالمسيرات السلمية التي لا تفسد البنى التحتية، ولا تكسر السيارات ولا البيوت، ولا تتعرض للمارة، ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها، وإنما تعبر عن إنكار المنكر بالوجه الذي يبلغ ويسمع هذه المسيرات مأذون بها، وهي حق للتعبير عن رفض ذلك الظلم وإنكاره، ولا يمكن أن ينكر المنكر العام الذي تقوم به الأمم بكاملها إلا إذا أنكرت الأمم بكاملها.
فإنكار الأفراد لمنكر الأمم لا يؤثر، وإنما يؤثر إنكار الأمم لمنكر الأمم، فإذا كان اليهود والنصارى قد فعلوا هذا المنكر الكبير فلابد أن يعبر المسلمون -أمة- عن إنكار هذا المنكر الكبير، وهذا مما لا يتم الواجب المطلق إلا به، فمن المعلوم أن إنكار المنكر واجب، وأنه لا يتم اليوم إنكار المنكر الجماعي إلا بالاستنكار الجماعي.
لكن مع ذلك نجد كثيراً من البلدان الإسلامية يقمع فيها مثل هذا النوع من التعبير والإنكار، وهم يعلمون أن تلك المسيرات والمظاهرات لن تمس الأمن ولن تخل به، ولن تتعرض للنظام، ولن تتعرض للمصالح، بل لا تخشى منها السفارات الغربية أو السفارات اليهودية أو غيرها، وليس من هدف المسيرات إزالة تلك السفارات، وإنما هدفها الإعلان عن إنكار المنكر فقط.
إن هذا النوع حصل في كثير من البلدان الإسلامية مع الأسف، وكان سبباً للفوضى ولإغلاق الطرق وتكسير زجاج المنازل والسيارات، والعبث الذي لا يليق بالشعوب المسلمة، وكل هذا الأمر مخالف للشرع ولا يقره أحد، لكن من أين جاء؟ وما هي بدايته؟! إنما كان من قبل الرفض للمسيرات السلمية، فبماذا تتضرر حكومة من الحكومات الإسلامية لو قاد رئيسها مسيرة للرفض، وخرج هو وأعضاء حكومته والشعب وراءهم يقودون مسيرة لتفيد المنكر، وللإعلان عن براءتهم -على الأقل- مما يفعله اليهود في فلسطين واستنكارهم له؟! بماذا تتأثر حكومة لو أقدمت على ذلك؟! أليس هذا سيزيدها عزة ومكانة؟! أليس سيزيدها محبة في نفوس شعبها وفي نفوس الشعوب المسلمة؟! لكن المشكلة هي أن التفكير مستورد.
فالحكومات تستورد التفكير، يأتيها الفكر مغلفاً من الخارج كما تستورد المواد الغذائية وغير ذلك.