إن كثيراً من الناس اليوم في جانب الخلق يجمعون بين الإفراط والتفريط، ففي جانب لا يستطيعون إنكار المنكر ولا تغييره ويزعمون أن ذلك للحياء، وفي جانب التفريط لا يجالسون بعض الكبار كأصهارهم مثلاً ولا يؤاكلونهم، ويظنون أن ذلك من الحياء والخلق، وهذا إفراط والأول تفريط.
فكلا الأمرين مقيت شرعاً، فلو كان هذا من توقير الكبار؛ لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاكل أبا بكر وعمر وعلياً وعثمان وهم جميعاً أصهاره، وكان يجالسهم في بيوتهم، (وأتى علياً وفاطمة وهما في فراشهما فقال: على مكانكما، حين أرادا القيام إليه، فجلس بينهما فجعل ظهره في بطن فاطمة ورجليه في بطن علي، قال علي: فأحسست برد رجليه في ظهري!).
فهذا من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلقه، ولا يمكن أن يرغب مؤمن عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يظن أن خلقاً أحسن من خلقه بحال من الأحوال، فالله تعالى يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فلا يمكن أن نأتي نحن بخلق من عند أنفسنا ويكون أعظم من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أو أحسن منه، هذا من المستحيل.
فلذلك الذي يفعل مثل هذا النوع جمع بين الخصلتين، جمع بين الإفراط والتفريط، وهذا منتشر كثيراً، وقد علمت أن بعض البيئات عندنا هنا -مع الأسف- تجد الرجل فيها لا يصلي مع صهره في مسجد واحد، ولا يستطيع أن يليه في الصف، وهذا من الإفراط في الخلق والمبالغة فيه وهو غير مشروع، وليس له وجه من الناحية الشرعية أبداً، ولا يعوده إذا مرض ويقاطعه مقاطعة كاملة والله تعالى يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
أين المودة والرحمة إذا كان الإنسان مقاطعاً لأهل زوجته: لا يشرب عندهم، ولا يأكل، ولا يعود لهم مريضاً، ولا يسلم عليهم، ويقاطعهم بالكلية؟! فإذاً هذا ليس من الخلق المحمود شرعاً، بل هو من الإفراط المقيت في الخلق.
إن علينا أن نعلم أن هذا الدين الذي ارتضاه الله لنا يدخل في كل شئون حياتنا، وأن المنهج المستقيم فيه مانع للتطرف، والتطرف يشمل الأمرين: يشمل الإفراط والتفريط، فكلاهما طرف، والتطرف مشتق من الطرف: (فكلا طرفي قصد الأمور ذميم).
واليوم يشتهر على ألسنة الإعلام إطلاق التطرف على جانب الإفراط فقط؛ وذلك أن الذين يطلقونه في الإعلام كلهم من المفرطين، فلذلك هم جميعاً متطرفون لكنهم يريدون نقل التطرف إلى الجانب الآخر فقط.
والواقع أن طرفي المنهج كلاهما تطرف، إن الذي يعرف هذا المنهج المرضي عند الله سبحانه وتعالى ويعلم أنه ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يرغب بنفسه عنها، فالله تعالى يقول: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].