العمر الأول: عمر الدنيا نفسها

ومن هنا فإن للإنسان في هذه الدار ثلاثة أعمار: فهي دار عمل ولا جزاء، والناس بخروجهم منها سيندمون جميعاً، فالمحسن يندم على أن لا يكون زاد، والمسيء يندم على إساءته، وفي ذلك فما من إنسان إلا وهو يتمنى الرجوع إليها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين أنه قال: (ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وكذلك فإن الشهداء يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليقاتلوا فيقتلوا مرة أخرى في سبيل الله، وكذلك كل من أحسن في عمله يتمنى أن يرجع إلى الدنيا حتى يزيد من الطاعات؛ لما يراه من تفاوت أحوال أهل الآخرة، فأحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة، فأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء، وهذه الكواكب التي نراها يصل إلينا نورها وضوؤها وهو من ملايين السنين يتجه إلينا، فلا تظن أن الضوء الذي نراه هو ابن وقته، بل هو من ملايين السنين يتجه إلينا، فهذا الفرق الشاسع بين أحوال أهل الآخرة، وهذا في حق أهل الجنة فكيف بمن سواهم؟! أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حجراً صلباً ألقي في جهنم فمكث سبعين خريفاً يهوي حتى وصل إلى قعرها، فلذلك على الإنسان أن يعلم أن هذا العمر الأول الذي هو عمر هذه الدنيا منقضٍ لا محالة، وأن نهايته حتمية، فهذه الدنيا غير باقية، ولذلك فإن اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو أو أن يكون مشتقاً من الدناءة، فالدنيا إما أن تكون من الدنوِ لقربها من الآخرة، أو أن تكون من الدناءة لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهذه الدنيا نهايتها لا تأتي إلا بغتة، فإنما نهايتها بأن يأذن الله للملك بأن ينفخ في الصور، فينفخ فيه نفخة الفزع فيصعق الناس جميعاً لها، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ النفخة الأخرى فإذا هم قيام ينظرون، وتنبت أجسامهم من جديد، فيخرجون يلبون نداء الله عندما ينادي: هلموا إلى ربكم.

فيخرجون حفاة، عراة، غرلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، كما ولدتهم أمهاتهم يبعثون، فيحشرون إلى الساهرة يجتمعون فيها جميعاً مثلما يجتمعون في المقابر، فالذي مات اليوم ودفن في المقبرة تساوت المعلومات التي لدينا عنه مع المعلومات التي لدينا عمن دفن قبل ألف سنة، فإن من ورائهم ذلك البرزخ الذي لا يمكن أن يخترق {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:100 - 104].

فمن علم هذا الحال علم أن هذه الدنيا ينبغي أن تنتهز، وقد صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير، والمسكين وابن السبيل).

إنك تشاهد التقلب في هذه الدنيا، وهو مؤذنٌ بالزوال، فتشاهد الفقير ينتقل إلى غني، وتشاهد الغني ينتقل إلى فقير، وتشاهد الصغير ينتقل إلى كبير، وتشاهد الضعيف يصبح قوياً والقوي يصبح ضعيفاً، وكل هذا مؤذنٌ بانتقال هذه الدنيا كلها، فالتغير دليل الفناء، وما كان كذلك فعلينا فيه أن ننتهزه.

لاحظ أن العامل الحريص الذي وقته ضيق، فإنه إذا رأى الشمس تدنو للغروب وقد تضيفت له فإنه لا يفسد شيئاً من وقته، بل يكابد العمل غاية المكابدة ليتمه قبل أن تغرب الشمس.

فالآن لم يبق من هذه الدنيا التي هي دار العمل إلا مثلما يبقى من النهار عندما تتضيف الشمس للغروب، فنحن آخر الأمم، ونحن أيضاً في آخر هذه الأمة، ثم إن الذي ينتقل من هذه الدار سيرى الذين سبقوه في الأعمال، سيرى كل إنسان يستظل بظل صدقته يوم القيامة بين مستكثر أو مستقل، ويرى أولئك الذين ترجح كفة حسناتهم رجحاناً بيناً عظيماً فيفرحون عند لقاء الله فرحاً عجيباً، ويرى آخرين دون ذلك، حتى يرى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (من أن رجلاً أتى به، فلما عرض على الله عز وجل قال: هل لك من عمل صالح؟ قال: لا يا رب.

فأمر الله ملائكته فجاؤوا بصحائفه، فإذا سجلات قدر مد البصر تبلغ الأفق من السيئات، وإذا بطاقة قدر الظفر كتب فيها: (لا إله إلا الله)، فقال الرجل: يارب! ما تغني هذه البطاقة عن هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم شيئاً.

فوضعت السجلات في كفة السيئات، ووضعت البطاقة في كفة الحسنات، فرجحت (لا إله إلا الله) وطاشت السجلات)، وقد ذكر أحد الشعراء وصية النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه للناس فنظم ما قال فقال: أجِدك لم تسمع وصاة محمدٍ رسول الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا إن التقلبات التي نشاهدها في هذه الحياة تقتضي منا المبادرة، فما من إنسان منا إلا وقد كان يجد فراغاً وصحةً، وقد عدم ذلك إلى غير رجعة، وقد علم أنه لن يعود إلى قوته التي فقدها، ولن يعود إلى شبابه الذي فقده، ولن يعود إلى الفراغ الذي كان فيه، يعلم أن تلك النعمة قد ذهبت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، فالصحة نعمة عظيمة لا يقدرها إلا من ابتلي بالمرض، عندما تؤلمه عينه أو أذنه أو ضرسه أو أي عضو منه فيبيت يتقلب لا يستطيع النوم، يتذكر حال الصحة وما كان عليه من قبل، فيتذكر أنها النعمة العظيمة، وكذلك إذا رأى بلاء الآخرين، فرأى من فقد البصر، أو من فقد السمع، أو من فقد الحركة، أو من فقد العقل، نسأل الله السلامة والعافية.

وشرٌ من ذلك البلاء في الدين، فمن فقد دينه بالكلية فهو أعظم الناس بلاءً، ثم من فقد جزءاً من أجزاء دينه كذلك فهو أعظم بلاء من الذي فقد بعض بدنه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015