القسم الثاني من أعمال القلب هو الحضور: وهو أن يحضر الإنسان ما يفعل وما يقول، فإن قلب الإنسان عرضة لأن يذهب به الشيطان، فإذا فعل كثيراً من أنواع العبادات ولم يكن حاضراً لها كانت جوارحه خيراً من قلبه؛ فكان معكوساً منكوس الفطرة، فالأصل أن القلب إذا صلح صلحت الجوارح، وإذا فسد فسدت، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ولذلك جاء النهي عن خشوع النفاق، قيل: وما هو؟ قال: أن ترى الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع، فإذا كانت الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع فهذا هو خشوع النفاق، ولا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضر، فقد يؤدي الإنسان الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها حتى انتهى إلى العشر، فلا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضره، وذلك أن الإنسان إذا كبَّر وهو لا ينوي التكبير أو لا يقصده وإنما جرى على لسانه فهو بمثابة النائم الذي يهذي، والعقل مناط التكليف، وإذا ذهب العقل فاشتغل بأمر آخر كانت العبادة مؤداة في غير موقعها، كالذي يحلم في النوم أنه يفعل فعلاً ولم يفعله، فلذلك نجد أن كثيراً من المصلين والعابدين في غير الصلاة من أنواع العبادة يشتغلون بقلوبهم بأمر وتنشغل جوارحهم بأمر آخر! ولذلك قال العلامة محمد المودودي رحمه الله: إن من دواهي شيطان الصلاة أنه يشغل الإنسان بشيء مهم من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة عن صلاته، فلا هو أدى ذلك الأمر، ولا هو أدى صلاته! قال: من أربى مثلث الوترين تذكيره أمراً من الدارين عند دخولك الصلاة فاشتغل به فلا تصلحه ولا تصل وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ما يشغل عن الحضور في الصلاة، فقال: (لا صلاة بحضرة الطعام)، وذلك أن قلوب كثير من الناس تشتغل بالطعام، وبالأخص عند الحاجة إليه، فلا تحضر في الصلاة، فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام، فقال: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء)، فلذلك يبدأ الإنسان بالطعام قبل أداء صلاة العشاء، ليخلص لصلاته، ويتأهب لها.
وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء حاقناً وهو يدافع الأخبثين، بل قال: (لا صلاة للمرء وهو يدافع الأخبثين)، فإذا كان الإنسان حاقناً يحس بغلبة البول فإنه لا يصلي في ذلك الوقت، بل يبدأ بالاستفراغ، ثم بعد ذلك يتأهب للصلاة ويتهيأ لها؛ لأن كل ما يشغله عن الصلاة سيذهب ببعض حضوره، فلا يؤديها كما شرعت.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عن المرور بين يدي المصلي لما فيه من شغله عن الصلاة، فاللحظة التي يمر فيها المار بين يدي المصلي يقطع نور صلاته؛ لانشغاله بالمار بين يديه؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في صلاته فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، وليدن منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان).
وكذلك جاء من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم في المسجد فجاءت شاة تريد المرور بين يديه فزجرها -معناه: أشار إليها فلم تزدجر- فتقدم حتى ألصق بطنه بالجدار؛ حتى يمنع تلك الشاة من المرور بين يديه.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب له أعلام -والأعلام هي الخطوط الحمر- فلما سلم خلعه وقال: (احملوا هذه إلى أبي الجهم، وائتوني بإنبجانيته، فإنني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي).
فلذلك لابد أن يتأهب الإنسان للانشغال بالصلاة، وعدم الانشغال بأي شيء سواها، حتى النظر إلى الخطوط في ثياب تشغل الإنسان عن صلاته؛ ولذلك خلع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الثوب، وأمر أن يحمل إلى أبي الجهم، وأن يؤتى بإنبجانية كان يلبسها أبو الجهم، فجمع بذلك بين الحسنيين؛ فـ أبو الجهم من فقراء المسلمين فتصدق عليه بهذا الثوب الجميل، والنبي صلى الله عليه وسلم زينته في ذاته؛ فلا تزيده الثياب زينة ولا رفعة، كما قال السموءل: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل ولذلك أراد أن يلبس إنبجانية هذا الفقير من فقراء المسلمين، فيلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزدان الإنبجانية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتخلص من كل ما يشغل عن الصلاة ويلهي عنها.
إن كثيراً من الناس إذا دخل الصلاة اشتغل بأمور مضت كان فيها، فكأنه لم ينقطع عما مضى، ولم يقبل على الله، ولم يدخل في الصلاة أصلاً، فما زال منشغلاً فيما كان منشغلاً به قبل الصلاة، وهؤلاء لم تنفعهم صلاتهم شيئاً، فلا هي تنهاهم عن الفحشاء ولا المنكر، ولا هي تقطع أعمالهم التي كانوا فيها، ومنهم من يبدأ الصلاة خاشعاً حاضراً، لكنه سرعان ما ينصرف وراء الأهواء والملهيات، فيدبر شئون حياته وأموره، ومع ذلك لا يقضي منها شيئاً.
وقد ذكر بعض الفضلاء أنه كان يصلي مع الشيخ الحسن فلما سلم تردد الشيخ في الصلاة، هل نقصت أو هي تمام، فقال له الرجل: بل نقصت فقال: وما يدريك؟ فقال: كنت إذا دخلت الصلاة اشتغلت بقافلة من هنا إلى مكان كذا، وإلى مكان الزرع، فلا تسلم حتى آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها، والآن سلمت وأنا في مكان كذا قبل أن آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها!! فأصبح يعرف قدر الصلاة بقدر انشغاله، وما تتجارى به نفسه فيه من الأمور.