إن علينا أن نتفهم أن الخلاف المقبول شرعاً أحد أمرين: إما خلاف في أمور الدنيا وقد مر معنا، أو في أمور الدين وهذا لا يكون إلا في غير المحسوم بالدليل، أما ما حسمه الوحي القطعي الدلالة والورود فلا يمكن الخلاف فيه.
والأمور الظنية الاجتهادية تقبل الخلاف، ويمكن أن تتباين فيها المذاهب وأن تتعادل فيها الآراء، وحينئذ لا يحل التعصب لرأي من الآراء، بل ينظر إليها جميعاً على أنها من تراث هذه الأمة، ومن إنتاج عقولها، وأن هذه مأخوذة من الوحي معتمدة عليه، فما كان منها صواباً فمن توفيق الله، وما كان منها خطأً فخطؤه على صاحبه، وليس عليه إثم إذا كان أهلاً للاجتهاد، بل هو مثاب بأجر واحد، والمصيب مثاب بأجرين، ومن هنا فالمذاهب الفقهية المعتمدة على فهم المجتهدين في الأدلة الشرعية يقبل الخلاف بينها، وينبغي أن يأخذ طالب العلم بالراجح منها، وأن لا يحتقر المرجوح، بل يعلم أنه قول مقبول وأن له دليلاً، وأنه إن ترجح لديه هو خلافه فلم يحسم الخلاف، بل ازداد أحد القولين بصوت واحد، ومن هنا فلا يحسم هذا الخلاف، وستبقى المذاهب موجودة وتبقى المدارس موجودة.
ومثل هذا في المدارس الدعوية والجماعات الإسلامية، فالخلاف بينها مثل الخلاف بين الفقهاء المجتهدين، يختلفون في آراء غير محسومة من ناحية الدليل، ولكل منهم أن يجتهد فيها، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ولكن لا يحل التعصب والمصادرة بوجه من الوجوه، ولابد إذا حصل ذلك الخلاف أن يكون حله بالرجوع إلى أهل العلم الراسخين فيه، وأن ينظر في الأدلة الشرعية، فمن كان أسعد بالدليل وأقوى حجة تنازل له الآخر عن رأيه، فهذا هو الوجه الصحيح المقبول! وإذا وجد أن لكل حجة ولكل دليلاً ولم يمكن الجزم بمصداقية أحد القولين، حينئذ لابد أن يعذر كل واحد منهما الآخر، وأن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه، ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أطل على الناس وهو محصور في الدار فقال له رجل: (يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام البدعة وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم).
ومن هنا فعلينا أن نستحضر نقاط الاتفاق بيننا أولاً، وأن نعلم أن أهل السنة من المسلمين نقاط الاتفاق بينهم أعظم وأكبر من نقاط الاختلاف، فنقاط الاختلاف في المجال العقدي محصورة يسيرة جداً، والذين يروجون لكثرتها ويريدون أن تكون شرخاً عظيماً لم يستوعبوها ولم يفهموا معاقل العلماء فيها.