إن الإيمان في اللغة يطلق على إطلاقين: أحدهما: معدى بالباء.
والآخر: معدى باللام.
أما المعدى بالباء فمعناه: التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك والذي يحض على العمل.
فالتصديق غير الجازم لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي يقبل الشك لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي لا يقبل الشك إذا لم يترتب عليه عمل لا يسمى إيماناً.
الإطلاق الثاني: المعدى باللام، وهو التصديق الجازم، فالتصديق الجازم فقط يقال له: الإيمان لكذا.
وأما التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل فهو الذي يعدى بالباء فيقال: الإيمان بكذا.
فمن الأول قول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] , فالرسول صلى الله عليه وسلم آمن بما أنزل إليه من ربه، فصدق تصديقاً جازماً لا يقبل الشك، ويحض على العمل بما أنزل إليه من ربه؛ لأنه لا يمكنه أن يتردد لحظة في صدق ما جاءه؛ لأن الوحي ليس كالخبر وليس كالمشاهدة، فقد يشاهد الإنسان أمراً بعينه ثم يشك فيه بعد ذلك للتقادم، أو لطول الزمن، أو لقصور في النظر، أو لوجود عدد كبير من الناس يخبر بخلاف ما رأى فيتراجع عما رآه ببصره، وكذلك قد يسمع الشيء بأذنه ويجزم به في وقت معين، ثم يتزلزل ذلك الجزم بسبب طول الزمان، أو بسبب النسيان، أو بسبب مناقشة أدت به إلى أن يقلد الآخرين ويقدم سماعهم على سماع نفسه.
وسبب ذلك القصور في الجوارح، فالبصر جارحة من جوارح ابن آدم الحادث المخلوق، وهي جارحة قاصرة، ومن أجل هذا القصور فإنك ترى الشيء القريب منك في حجم معين، وكلما ابتعد صغر عنك، ترى الإنسان القادم من بعيد وهو صغير في حجمه، وكلما اقترب ازداد حجمه حتى يصل إلى مستواه الذي يجزم به البصر، وإن كان هذا المستوى غير مقطوع به، فيدك هذه إذا اقتربت من عينك غطت عن الرؤية، وإذا ابتعدت صغرت، وكلما ابتعدت ازدادت في الصغر، وهذا يقتضي منك الشك في المرئيات؛ لأنك لا يمكن أن تجزم جزماً حقيقياً بأن الحجم الحقيقي للأشياء هو ما تراه لحصول التذبذب حسب المسافة.
ومن هنا فنحن نرى الشمس قرصاً صغيراً يتصور الإنسان أنه بالإمكان أن يضعها في يده، والواقع أن الأرض كلها أقل من ربع مساحة الشمس، وكذلك نرى الكواكب السيارة الكبيرة في هذا الحجم الصغير في حجم شعلة النار أو في حجم المقباس، والواقع أن حجمها أضعاف حجم الأرض، فكل هذا يدلنا أن المرئيات المحسوسة بعلم الحادث كلها قابلة للشك، فلا يمكن أن يقول الإنسان: آمنت بأن فلاناً جالس بين يدي؛ لأن الإيمان لا بد أن يكون يقيناً لا يقبل الشك ولا يتزلزل، وينبنني عليه عمل.
وكذلك الحقائق العلمية لا يمكن أن يؤمن بها الإنسان، بمعنى: أن يجزم بها جزماً لا يقتضي الشك، بإمكان التذبذب فيها والزوال، لا يمكن أن يقول الإنسان الآن: آمنت بكروية الأرض -مثلاً-؛ لأن هذا لم ينزل به الوحي، وإنما هو راجع إلى مشاهدات قد تكون خطأً وقد تكون صواباً، فلذلك تقيد الإيمان المعدى بالباء بهذا اليقين.
الوحي ليس مأخوذاً عن طريق السماع ولا عن طريق البصر، وإنما: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195] , فلا يمكن أن يتشكك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يوحى إليه من ربه، فأنت يمكن أن تشك فيما حدثك به إنسان أو رأيته أو سمعته، لكن ما نزل به الوحي لا يمكن أن يقع فيه الشك، ومن هنا قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285].
أما الإطلاق الثاني -وهو تعدية الإيمان بالله باللام بمعنى التصديق الجازم الذي يقبل الشك- فمنه قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] , فإخوة يوسف عليه السلام وعليهم عندما قدموا بالمكيدة إلى أبيهم يعقوب عليه السلام وأتوه بدم كذب وزعموا أن الذئب قد أكل يوسف عليه السلام قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] , فلو كنت تجزم بصدقها فإنك لا تصدقنا بذلك، ومعنى الإيمان هنا التصديق الجازم الذي يقبل الشك؛ لأنه عدي باللام ولم يعد بالباء، فلم يقولوا: وما أنت بمؤمن بنا ولو كنا صادقين.
بل قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17].
ومثل هذا قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61] , فـ (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) هذا التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) معناه: يصدقهم فيما يقولون.
وهذا هو التصديق الجازم، لكنه مع ذلك يقبل الشك؛ لأن شهادة العدل -مثلاً- الأصل فيها أنها تفيد علماً، ولكن هذا العلم غير يقيني، ومن هنا اختلف أهل الحديث في الحديث الصحيح الذي رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه دون انقطاع ولا شذوذ ولا علة، هل هو يقتضي اليقين الجازم أو لا يقتضيه؟ فجمهورهم على أنه لا يقتضي القطع، وهذا الذي عليه أهل المصطلح وجمهور أهل الحديث، وخالف في ذلك بعض الأصوليين فزعموا أن ما صح إسناده لزم الجزم به، سواءٌ أكان من أخبار الآحاد أو كان من المستفيض المشهور.