هذا وإن مشروعية الصدقات الأخرى والتكافل الاجتماعي المطلق، به يتم الاتصال بين البشرية، وترتبط الوشائج كالصداق بين الرجل والمرأة، وكالنفقة الواجبة بين الوالد وولده، والزوج وزوجته، والمملوك ومالكه، فهذه النفقات كلها تدخل في إطار هذا التكافل الاجتماعي الذي هو من المسئولية المالية.
وكذلك الحق العام في المال؛ فإن في المال حقاً عاماً للأمة كلها، يؤخذ إما بطريق التبرع، وإما بطريق التقويم والتقدير، كذلك فإن من موارد التكافل الاجتماعي ومن أوجهه المطلوبة، ما بينه الشارع في أن الأغنياء عليهم أن يشاركوا بأموالهم في إعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، وهذا يشمل إنفاقهم في الجهاد في سبيل الله وغزو العدو، وإنفاقهم كذلك في تعلم العلم وفروض الكفايات، وإقامة الجسور والمساجد والمستشفيات وغير ذلك من أنواع المصالح التي يحتاج الناس إليها، وكانت هذه المشاريع في صدر الإسلام فردية، يقوم بها بعض الأفراد، فيقيمون المدارس من تلقاء أنفسهم، ويجعلونها أوقافاً، ويقفون عليها الحوانيت والمزارع، فيضمن ذلك بقاءها واستمرارها وحريتها، وبهذا الوقف خرج العلماء الأفذاذ الكبار؛ لأنها عاشت -أي: الأوقاف- في جو من الحرية، يضمن لها الاستمرار، وعدم التدخل في قراراتها.
أما حين أخذت أوقاف المدارس، وأصبحت مؤسسات تابعة للدول، فإنها عاشت في أحضان العبودية، وفقدت أنفاس الحرية، ومن أجل هذا لم تخرج العلماء، وإنما أصبحت مؤسسة من مؤسسات النظام الفاسد، فالأزهر كان مؤسسة حرة، ينفق عليه من الأوقاف التي وقفها عليه تجار المسلمين في قرون طويلة، وقد أخرج عدداً كبيراً من العلماء، واستفادت منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عدة قرون؛ وحين جاء عبد الناصر أمم أوقافه وأخذها لصالح الدولة، أصبح الأزهر ينفق عليه من ميزانية الدولة، وأصبحت الدولة هي التي تعين فيه وتعزل، وتضع له المناهج والبرامج؛ فتوقف دوره، وتوقف عطاؤه، ولم يخرج ما كان يخرجه من العلماء، وكذلك في البلدان الأخرى المختلفة.
وهكذا المستشفيات كان الأفراد والتجار يقومون ببنائها، ويتطوعون بها لصالح الأمة، ويوقفون عليها الأوقاف ذات الريع المستمر، فتستفيد الأمة من ذلك، واستمر هذا زماناً طويلاً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعاش الناس فيه بخير، حتى حصل تعميمها، ورجعت إلى مؤسسات مملوكة للقطاع العام، ليس وراءها عناية ولا صيانة، ولا يرصد لها مال مخصص، أو أصبحت أملاكاً للقطاع الخاص، وفي مجال التنافس لم يعد يسيرها روح الإنسانية والتكافل، فأصبحت مكاناً لكسب المال والتنافس في جمعه.
وقد كان الناس قديماً يجتهد أحدهم في أن يبني مسجداً أو مدرسة أو مارستاناً -والمارستان هو المستشفى- وفي ذلك يقول أحد الشعراء يمدح أحد العلماء: أنشأت مدرسة ومارستاناً لتصحح الأديان والأبدانا فالمدرسة لتصحيح الأديان، والمارستان لتصحيح الأبدان.
وكذلك من أوجه التكافل الديات التي تدفعها العواقل، فإن الخطأ ليس من كسب الإنسان، وليس من طاقته التخلص منه، ولو حمل عليه لنقص إنتاجه، وقصرت به أفكاره عما ينتج لصالح هذه الأمة.
فلو كان الإنسان يسوق سيارته فحصل حادث من غير قصد منه، فمات به عدد من الناس، وكلف هو بدياتهم أجمعين؛ لترك الناس قيادة السيارات، وتوقفت الكثير من المشاريع النافعة، وكذلك لو أن الإنسان كان يعلم أنه إذا بنى مبنىً، وانهدم في أثناء بنائه من غير قصد منه، ودفع ديات المتأثرين به؛ لتوقف الناس عن البناء، وتعطلت منافع كثيرة للبشرية، وكذلك في الحفر، وكذلك في استخراج المعادن، وغير ذلك من أنواع المشاريع النافعة.
فلتشجيع الناس على هذا، جعلت هذه العواقل هي التي تتحمل ديات الخطأ سواء كان ذلك في الأنفس أو في المنافع أو في العظام والشجاج.
وكذلك الدواوين التي تقوم مقام العواقل، فالحضارة منافية للقبلية التي هي نظام بدوي في الأصل، والحضارة تجتمع فيها القبائل، وتختلط فيها الأعراق، وتقف فيها العصبية القبلية، فمن أجل هذا احتيج فيها إلى بديل عن العواقل، فأنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجماع من الصحابة الدواوين، التي أصبح أهل كل مهنة يدفعون فيها الدية تكافلاً فيما بينهم، فالشرطة يدي بعضهم عن بعض، والجيش يدي بعضهم عن بعض، والمعلمون يدي بعضهم عن بعض، والأطباء يدي بعضهم عن بعض وهكذا، فهذا عندما يزول النظام القبلي، وتختلط الحضارة، وتنتفي العصبيات.
هذه الأوجه للتكافل والتكامل بين البشرية ينبغي ألا يغفل عنها، وأن تدعم وتقوى في حياة البشرية؛ حتى يعرف من أين يؤتى بهذا المال؟ وفيما ينفق؟