النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع المال

إن النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع هذا المال، فإذا كان الإنسان ينظر إليه وهو يعلم أنه لا غنى له عنه، وأنه عصب الحياة، ولكنه ليس ملكاً له، ولن ينال منه أكثر من رزقه، فإنه سيحاول أن يجعله في يده لا في قلبه.

فمستقر المال في النظرة الإسلامية اليد، ومستقره في النظرات الأخرى القلب؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)، فتجد الفقير الذي لا يملك ديناراً ولا درهماً غنياً مرتاحاً راضياً بما أوتي، ويتصرف على وفق ما آتاه الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وتجد الغني في المال -إذا كان المال في قلبه- إذا فقد منه درهماً واحداً ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وينشغل في عمرة تنمية ماله حتى يكون خادماً للدنيا، وكان المفروض أن تكون الدنيا خادمة له، فكثير من الناس هم عباد للدنيا يخدمونها، والدنيا ليست خادمة لهم، إذا جعل الله تحت أيديهم بعض هذه الدنيا كان أذىً عليهم ونكالاً ووبالاً، فهم يعملون لها ليل نهار، ويقضون أوقاتهم الثمينة لخدمتها.

وفي المقابل نجد آخرين لم يؤتهم منها إلا القليل، ولكنهم استغلوه لخدمة أنفسهم، فقدموه لآخرتهم، واستعانوا به، واستعفوا به في دنياهم؛ وبذلك سيروه وفق ما أمر الله به، ومن هنا كان جوابهم يوم القيامة جواباً مجدياً، وجواب الأولين جواباً مخزياً، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه فيما عمل به)، فالمرء سيسأل عن ماله بسؤالين يوم القيامة: من أين اكتسبته؟ هل أخذته من حله؟ ثم بعد ذلك: هل وضعته في محله؟ وهذان السؤالان لا بد أن يجعلهما الإنسان نصب عينيه، وهو يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، فالناس جميعاً تجار، وهم مفطورون على حب المال، ولكن تفاوتهم في ذلك أن منهم من لا يأخذه إلا من حله، ولا يضعه إلا في محله، ولا يطغى إذا تكاثر عليه، ولا يجزع على ما فاته منه، كما قال تعالى: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران:153]، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]، فلا ينبغي للإنسان أن يحزن على ما فاته منه؛ لأن ذلك سلبي، ويجعله يتحسر، ويتقطع حسرات على أمر غير مقدور، ولا يمكن أن يناله، فيقتطع جزءاً من وقته وتفكيره دون أن يفيده شيئاً، وليس له كذلك أن يفرح بما نال منه؛ لأن ذلك مدعاة للطغيان؛ ولهذا كان قوم قارون ناصحون له حين قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، فهذا قانون متكامل، يشتمل على أربعة مواد، ينبغي لكل ساع لجمع المال أن يجعلها نصب عينيه: أولاً: أن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة.

ثانياً: ألا ينسى نصيبه من هذه الدنيا، وحظه منها.

ثالثاً: أن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن يستشعر مسئوليته تجاه الفقراء حين أغناه الله.

الرابعة: (ولا تبغ الفساد في الأرض) فلا يبغي الفساد في الأرض.

وهذا إذا حاولنا شرحه فسيطول بنا الحديث، ولن نأتي إلى حقائق يسيرة من معنى هذه الآية القليلة الألفاظ، الكثيرة المعاني.

قال الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] ولم يقل فيها: (وابتغ بما آتاك الله الدار الآخرة) لأن هذا مستوى من الإيمان رفيع جداً، وهو أن يخرج الإنسان كل ما لديه في سبيل الله، وهذا لا يصل إليه إلا الصديقون، ولا يمكن أن يكون قانوناً عاماً لكل الناس، بل قال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، و (في) للظرفية المقتضية للوسط، فالظرفية تقتضي الوسط، فليس مطالباً بأن ينفق خير ماله، وليس مطالباً كذلك بأن يتيمم أدناه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267].

وقوله: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، هذا يقتضي من الإنسان أيضاً أن يعلم أن له نصيباً محصوراً قليلاً في هذه الدنيا، حتى لو عاش عمراً طويلاً، فإنه عندما يوضع في قبره سينسى ذلك العمر كله، ويظن أنه ما عاش فيها إلا يوماً أو بعض يوم: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]، ومن أجل هذا فإن على الإنسان أن يعرف حظه من هذه الدنيا، وأن يعلم أنها ليست له وحده، وأن عليه أن يصلحها ويدعها لمن وراءه، فهو بمثابة الراكب الذي استظل بظل شجرة، فلا ينبغي أن يقطعها ولا أن يفسدها حين ينهي غرضه منها، بل يتركها لمن يستظل، وإذا رجع مرة أخرى استفاد منها.

وهذا المثال النبوي عجيب جداً أيضاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل فقال: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، الراكب إذا رأى الشجر ينبغي أن يختار خيره، وأبلغه ظلاً، وأنظفه مكاناً؛ لأنه يختار لنفسه المكان الملائم المناسب، ولكنه مع ذلك لا يتعب تعباً شديداً في استصلاح هذا الظل، ولا الاستقرار فيه، فهو يعلم أن الظل سريعاً ما يتحول وينقلب، ويعود الفيء إلى المشرق، ثم تغرب الشمس، وحينئذ يزول الظل: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45 - 46]، كذلك فإن الراكب إذا استظل بظل شجرة، فكثيراً ما تكون بعد ذلك ذات ظل دائم لمن يأتي بعده؛ لأن العرب يقولون: ولن تُصادفَ مَرْعىً ممْرِعاً أبداً إِلا وَجَدْتَ به آثارَ مُنْتَجِعِ فالمكان الذي يستظل الناس به عادةً سيكون مطروقاً ويستظل الناس به، وإذا رحلت عنه قافلة عادت إليه أخرى؛ وقد جاء في الحديث: (لعن الله من غير منار الأرض) والمقصود بذلك: أن من يقطع الأشجار التي هي معالم في الأرض، أو يغير الطرق والسبل، يؤدي بعمله ذلك إلى إتلاف وإفساد في الأرض، فهو ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015