الخلاف المذموم هو اختلاف التضاد، وهو أنواع، ويرجع جمهورها إلى أربعة أنواع: 1 - الخلاف السياسي.
2 - الخلاف العقدي.
3 - الخلاف الفقهي.
4 - الخلاف المنهجي الدعوي.
النوع الأول: الخلاف السياسي: وهو أول خلاف شهده المسلمون، وقد عُرف في الأمم السابقة أيضًا، وهو الخلاف فيمن يحكم؟ هل فلان بعينه يستحق ذلك ويكون هو الحاكم أو السلالة المعينة الفلانية؟ وهذا خلاف عصف بالأمم السابقة، وحصل -أيضًا- في صدر هذه الأمة، حيث اختلف الناس على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: خص الخلافة بأسرة واحدة هي أسرة علي بن أبي طالب، وهذا مذهب الشيعة.
المذهب الثاني: عممها في سائر المسلمين، وهذا مذهب الخوارج كما قالوا: ألم تر أن الله أظهر دينه وصلت قريش خلف بكر بن وائل المذهب الثالث: خصها بقبيلة، وهو مذهب أهل السنة، حيث جعلوها في قريش.
وقد استمر هذا الخلاف السياسي، وتوصلوا إلى أن ينقل الخلاف من الأشخاص والسلالات إلى الصفات، فتحدد صفات معينة وشروط معينة مستنبطة من الوحي، وتطبق على الناس، ومن كانت أبلغ فيه وأمكن؛ كان محل اتفاق، وكان أولى ولا محالة.
ومما تجدر الإشارة إليه في الخلاف السياسي أنه لا يحل أن يكون حافزًا للتنكر للحق ومعارضته، فمن المعقول أن تقع معارضة في السياسية، لكن لابد أن تكون تلك المعارضة للباطل، فلا يمكن أن تكون معارضة للحق والباطل معًا أو للحق، فهذا غير مقبول شرعًا ولا عقلاً.
النوع الثاني من أنواع الخلاف: الخلاف العقدي، ومن المعلوم أن أصول الدين الأصلية: هي الثوابت التي لا يقبل الخلاف فيها، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل في قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) فهذه الستة الأمور هي أركان الإيمان، من آمن بها ولم يزد عليها دخل الجنة، ويبقى تفصيلاتها وجزئياتها، منها ما حسمته النصوص، ومنها ما ترك للاجتهاد، وما ترك للاجتهاد فيه خلاف كثير، وما وردت فيه النصوص منها ما لم يكن صريحًا قطعي الدلالة، ومنها ما كان قطعي الدلالة، لكنه غير قطعي الورود، فكان ذلك مثارًا للخلافات، وتلك الخلافات ينبغي أن يقتصد فيها، وألاَّ يفتح الإنسان أمام تنوعها، والمخاصمة فيها، ولهذا حذر الله من الجلوس مع الذين يخوضون في آياته فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:68 - 69]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وقد كان أئمتنا يكرهون الخوض في ذلك، قال مالك للرجل الذي جاء يسأله في بعض تلك المسائل: (أرأيت إن جاء من هو ألسن منا فخالفنا -خالف ما أنا عليه وما أنت عليه- وأتى بقول أظهر لسنًا وحجةً أتتبعه؟ قال: نعم، قال: فإن جاء من هو ألسن منه وأقوى حجة؟ قال: تبعته، قال: ما هي إلا سلسلة متصلة).
وأتاه أحد القدرية فقال: أريد المجادلة في القدر، فقال: (أما أنا فعلى بينة من أمري، وأنت شاك؛ فاذهب إلى شاك مثلك فجادله).
وعندما سأله رجل عن صفة الاستواء قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ وما أراك إلا صاحب سوء، أخرجوه عني).
وقد كان كثير من الأئمة يتحرزون من الكلام في هذه الموضوعات، ويقولون: (سلني عما إذا أخطأت فيه قلتَ: أخطأتَ، ولا تسلني عما إذا أخطأت فيه قلتَ: كفرتَ).
وقد توسع الناس -وبالأخص في أيام المتأخرين- في المناظرات العقدية والخلافات التي شغلوا بها الأمة، وأكثروا فيها من التعصب والفرقة، والأمة في غنىً عن الخوض فيها أصلاً، فقد قال العلامة الشيخ بابل بن الشيخ سدية: كن للإله ناصرًا وأنكر المناكرا وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائرا ولا تعد نافعًا سواءه أو ضائرا واسلك سبيل المصطفى ومت عليه سائرا فما كفى أولنا أليس يكفي الآخرا وكل قوم أحدثوا في أمره مهاجرا قد زعموا مزاعمًا وسودوا دفاترا واحتنكوا أهل الفلا واحتنكوا الحواضرا وإن دعا مجادل في أمرهم إلى مرا (فلا تمارِ فيهم إلا مراءً ظاهرا) ويقول أيضًا: آمن أخي واستقمْ ونهج أحمد التزمْ واجتنب الطرق لا تغررك أضغاث الحلمْ لا خير في دين لدى خير القرون قد عُدِمْ أحدثه من لم يجئ قطع بأنه عصمْ من بعد ما قد أنزلت (اليوم أكملت لكمْ) وبعد ما صح لدى جمع على غدير خمْ ادعُ إلى سبيله وخص في الناس وعمْ وقل إذا ما أعرضوا (عليكمُ أنفسكم) والخلاف العقدي منه الخلاف السلوكي، كالخلاف مع الصوفية، وهو داخل فيما سبقت الإشارة إليه.
النوع الثالث: الخلاف الفقهي: الخلاف الفقهي: وهذا الخلاف أغلبه إما في اعتبار الدليل دليلاً، أو الخلاف في دلالته، أو بسبب عدم بلوغه أصلاً.
وأسباب هذا الخلاف أرجعها العلماء إلى اثني عشر سببًا، والأصل فيه أنه إثراء للفقه، وتوسعة على الأمة، وعناية بدراسة الشرع؛ لذلك ينبغي ألاَّ يلحق بخلاف التضاد، وإنما ينبغي أن يجعل من خلاف التنوع؛ وذلك إذا خلا أهله من التعصب، وعرفوا أن الأمور الاجتهادية وسع الشارع فيها ولم يحسمها بالدليل؛ لحصول التوسعة فيها، فهي من العفو، ولذلك قال الشعراني: (إن للشريعة سورين: سور الرخصة وسور العزيمة، والمتخالفان من أهل المذاهب داخل هذين السورين، فمن نحا جهة التحريم فقد اقترب إلى سور العزيمة، ومن نحا إلى جهة الإباحة فقد اقترب إلى سور الرخصة، والجميع بين سوري الشريعة).
الخلاف المنهجي: النوع الرابع: الخلاف المنهجي: ومن أبرز أمثلته الخلاف الدعوي بين المناهج الدعوية المختلفة، وهذا الخلاف هو مثل الخلاف الفقهي، فلا شك أن الدعوة يُحتاج فيها إلى توسيع المدارك وتنويع الوسائل، وينبغي أن تكون مناهجها كجوارح البدن؛ فللبدن عين لا يمكن أن تقوم مقامها الأذن، والأذن لا يمكن أن تقوم مقامها الرجل، والرجل لا يمكن أن تقوم مقامها الشفتان أو الفم مثلاً، والفم لا يمكن أن تقوم مقامه اليد وهكذا، فكلها جوارح مفيدة يحتاج إليها، والقلب يوجه الجميع، ويستفيدوا منه، وهي وسائل إدراكه، فهكذا ينبغي أن يكون التنوع في المناهج من باب التنوع لا من باب التضاد، ولكن مع ذلك قد جعل في كثير من الأحيان من باب التضاد، وما ذلك إلا للتعصب المقيت الذي نحن في غنى عنه.
هذه هي أهم أنواع الاختلاف.