إن علماء بلاد المغرب العربي قد اشتهروا منذ القرن الخامس الهجري في بداياته عندما قدم إلى هذه البلاد عبد الله بن ياسين الجزولي رحمه الله داعياً إلى منهج الحق مجدداً للإسلام في هذه البلاد، فأقام أول حركة إسلامية عرفت في هذا البلد وهي حركة المرابطين، أقامها على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الوحيين الكتاب والسنة، وأخذ الناس بالعزائم وضحى التضحية الجميلة العجيبة، فإنه قد خرج مهاجراً من بلده لم يصحب أهلاً ولا مالاً، وما أخذ معه من بلاده إلا سيفه وكتابه.
ولما جاء إلى موريتانيا اعترضه أمراء القبائل، ووجد مضايقة من الملأ والكبار كعادتهم في استقبال كل دعوة وافدة، فمن المعلوم أن كبار كل أهل بلد يقفون دائماً في وجه الدعوات، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام:123]، فهم الذين يقفون في وجه الدعوات ويناصبون الأنبياء العداء ويناصبون كل من دعا إلى الله العداء، وهم الملأ الذين يريدون الحفاظ على الواقع المنحرف الذي تربعوا على عرشه فلا يريدون تغييره.
لكن الدعاة من سنة الله أن يستجيب لهم الضعفاء، وأن تستجيب لهم الطبقات المسحوقة، وأن يستجيب لهم الشباب، كما قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83].
وعندما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أضعفاء الناس اتبعوه أم أقوياؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم.
فقال: هم أتباع الرسل.
فأتباع الرسل في كل زمان ومكان والمستجيبون والمبادرون لهذه الدعوة في الغالب هم المسحوقون في أمور الدنيا يعوضهم الله عنها خيراً منها.
فإن الملأ يريدون الحفاظ على الواقع؛ لأن مصالحهم مرتبطة به، أما الشباب والمستضعفون فليست لهم مصالح واقعية يحافظون عليها، فلذلك يرغبون في الاستجابة للدعوة، وإذا رأوا الحق واضحاً لم يحل بينهم وبين اتباعه والاستجابة له بعض المكاسب أو الآمال الدنيوية.
عندما جاء ابن ياسين إلى بلاد موريتانيا هذه ووقف في وجهه الملأ استجاب له الشباب، فاختار منهم مجموعة قليلة رأى أنها أهل الجلد والصبر، وذكر أن هؤلاء الفئة القليلة يصدق عليهم قول الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].