ومن هذه المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين: أن الشيوعية الحمراء التي تمسخ الشعوب وتهجرها، وتعرفون ما حصل فيها من قبل من الاستبداد والشدة، وتعرفون أن شعب الشيشان قد تعرض من قبل للتهجير والإبادة، وأُخرج من بلاده كاملاً، شعب بكامله يُهجر من بلاده، وكذلك الشعوب المجاورة فإنها خضعت تحت سلطان الشيوعية سبعين سنة، وهاهم اليوم تخرج منهم النماذج الفذة المدافعة عن الإسلام، مثل القائد جوهر دوداييف رحمه الله، والقائد شامل باسييف وغير هؤلاء من المجاهدين في سبيل الله، وأذكر قبل سقوط الشيوعية أننا كنا في زيارة هنالك، فلقينا امرأة روسية مسلمة كبيرة السن، فأخبرتنا أنها لو وجدت من يريها المصحف لأعطته كل مصوغاتها ومقتنياتها، مقابل رؤية المصحف فقط!! تقول: أتمنى أن أرى المصحف، ولا تعرف كم جزء هو، فهممت أن أعطيها مصحفاً، فنصحني أصحابي وقالوا: لا تفعل، فإنك لو فعلت لماتت من حينها فرحاً به!! وكان الوقت إذ ذاك في شدته وقسوته، وكان الشباب يدرسون أحكام الطهارة والصلاة والعبادات تحت الأرض في الأقبية، وهم الذين خرجوا اليوم يقودون المسلمين في الجمهوريات الإسلامية كلها، أولئك الذين كانوا يتعلمون الأحكام في ظل سلطان الشيوعية الذي يضرب بيدٍ من حديد، وأذكر أن شباباً من طاجكستان أتوني وهم يريدون الدراسة، فوجدت أن كل واحدٍ منهم يلبس ثياباً قد جعل فيها مخابئ للكتب، وكانوا يشترون نسخاً من الكتب الصغيرة جداً -المضغوطة- يضعونها داخل ملابسهم، بحيث لا يطلع عليها أحد بوجه من الوجوه، ويخرجونها بصعوبة من داخل ملابسهم، ثم يردونها بعد نهاية الدرس.
كل هذا دليلٌ على أن هذا الدين عظيم، وأنه لن يتراجع أبداً ولن ينهزم، وأن البلايا والمحن التي تصيب هذه الأمة إنما هي معالم على طريق الحق، ونكبات أصابت من هو خير منا، وسيستمر الأمر خيراً مما كان، فلابد أن يبقى في هذه الأمة من يجاهد في سبيل الله ويعلي كلمة الله وينصر الحق، والآثار واضحة شاهدةٌ بهذا، لا ينكرها بوجه من الوجوه إلا مكابر.
أخبرني رجلٌ من الفلسطينيين: أنه لقي حبراً من أحبار اليهود في فلسطين، فقال له: ماذا تعلم عن المعارك القادمة؟ فقال: ما شأنك وشأنها؟ قال: نسمع أن اليهود سيهزمون في فلسطين، وأن دولتهم ستسقط؟ قال: نعم، ذلك واقع، لكن لستم أنتم أصحاب ذلك، قال: وما يدريك؟ قال: أصحاب ذلك من يكون عددهم في صلاة الفجر في المساجد كعددهم في الجمعة! إذا وصل العدد الذي يشهد صلاة الفجر في الجماعة قدر العدد الذي يشهد صلاة الجمعة فسيحصل ذلك، وهذا الذي قاله هذا اليهودي قد بدأت اليوم ملامحه، فالرجل الذي حدثني بهذا قد توفي رحمه الله، وهو شيخٌ من شيوخ القدس اسمه بيوض التميمي من ذرية تميم الداري رضي الله عنه، وكان عضواً في المجمع الفقهي، واليوم يخبرني عددٌ من الذين يأتون من فلسطين بإقبالٍ عجيبٍ على الله سبحانه وتعالى، وبالأخص في الشباب والنساء، ويذكرون من التزام الناس ما لا يتصوره أحد في ظل القمع الصهيوني والإهانات والأذى.
سئل عبد الفتاح مورو عن النهضة في تونس، وعن الصحوة الإسلامية فيها ما سببها، مع أن تونس من قبل ركز عليها الفرنسيون من أجل مسخها حضارياً بالكلية، وما لم يقوموا به قام به (بورقيبة)؟ فقال: كانت بداية الصحوة في تونس قطرةً من دم سيد قطب، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لما قتل سيد قطب وصل خبر قتله إلى المسلمين في تونس، والشباب غارقون في أمرهم، لا يعرفون شيئاً عن واقع الأمة، ولا عن الدعوة، ولا عن الجهاد في سبيل الله، فحينئذٍ فكروا في هذا الأمر، فبدأت الصحوة في تونس بثلاثة أشخاص، كانوا يتدارسون مختصر الأخضري في المسجد، وبهؤلاء الثلاثة بدأت هذه الصحوة المنتشرة التي دخل الناس بسببها في دين الله أفواجاً، وهذا من العجائب الغريبة، ومثله ما حصل قديماً في ليبيا، عندما ظن الإيطاليون الفاشيون أنهم قضوا على الروح الجهادية في ليبيا بالكلية، فوجدوا أن المجاهدين يزداد عددهم، وفي كل فترة يزداد العدد، والحصار والقتل والتشريد مستمر، وكل ذلك يزيدهم عدداً، فقال أحدهم كلمته المشهورة: (إن المجاهدين المسلمين كشجرة الصنوبر، كلما قطع منها غصن نبت غصنان) فالعدد يزداد ولا يزيده القتل ولا التشريد ولا السجون إلا زيادةً وتقدماً.
ومن كان يظن أن تركيا التي مسخها مصطفى كمال أتاتورك، وحرم فيها الأذان بالعربية، وحرم فيها الحجاب، ستعود إلى حالها اليوم؟! إن الذي يزور تركيا الآن وقد زارها من قبل عشر سنين أو قبل خمسة عشر سنة يرى العجب خلال هذه الفترة، مدرسةٌ واحدة في تركيا يحفظ فيها أعداد هائلة من الشباب القرآن حفظاً عجيباً جداً ما رأيت مثله، شاب يحفظ القرآن، يحفظ الكلمة والتي قبلها والتي قبلها حتى يكمل القرآن إلى الخلف، يحفظه إلى الوراء كما يحفظه إلى الأمام، ويحفظه بأرقام الآيات وأرقام السور، إذا قلت له: هات الآية رقم كذا من السورة الفلانية، فإنه مباشرةً ينطلق، هذه المدرسة قائمة إلى الآن، ونظيرها كثير جداً من المدارس العلمية والقرآنية، وإقبال الناس على الحجاب والالتزام شيء كثير جداً، فكل هذا يدلنا على أن المستقبل لهذا الدين، وأن كل مضايقةٍ له لا يمكن أن تؤثر فيه، ولا يمكن أن تزيده إلا إقبالاً، وتعلمون أن الصحوة في هذا البلد استفادت كثيراً مما حصل من قمع الصحوة في الجزائر، لما قُمع الناس في الجزائر تحمس الناس هنا للدين، فرجع كثير من الشباب الموريتانيين للالتزام بالدين حين سمعوا الأخبار، وهكذا كلما حصلت واقعةٌ، كما إذا حصلت مشكلة في فلسطين فأوذي المسلمون هناك، أو في العراق أو في أي مكان؛ ينتشر الإسلام في أطرافٍ أخرى، وقد مثّل له أحد الناس باليبس من الأرض، فالأرض اليابس منها قدر الربع، والبقية كلها بحار، لكن لو قُدر أن جزيرة من الجزائر خسف بها فاختفت، فلا بد أن يظهر من اليبس قدرها أيضاً، إذا اختفت قارةٌ من القارات، فستظهر قارة أخرى؛ لأن القضية مبنية على هذا التوازن، فلهذا إذا حصلت المضايقة على الإسلام في جانب، ظهر الانفتاح والزيادة في جانب آخر، وما هذا إلا نظير قول الشاعر: كأن عيني وقلبي بعدكم طرفا غُصنٍ من البانة الخضراء فينانِ يسيل جانبه ماءً إذا اشتعلت ناراً مؤججةً في الجانب الثاني أو كما قال: أبو بكر بن جريج رحمه الله: قلبٌ تقطع فاستحال نجيعا فجرى فسال مع الدموع دموعا رُدت إلى أحشائه زفراته فقبضن منه جوانحاً وضلوعا عجباً لنارٍ أظلمت في صدره فاستنبطت من جفنه ينبوعا لهبٌ يكون إذا توقد في الحشا أيضاً ويظهر في الجفون ربيعا فكلما اشتدت المضايقة في جانب من الجوانب يتسع الحال في جانبٍ آخر، وقد تعهد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ألا يسلط على هذه الأمة عدواً من سوى أنفسها، فيستأصل بيضتها، وإذا سُلط عدو على جانب من الجوانب؛ فسيحصل رخاءٌ في المقابل في جانب آخر، كلما حصلت شدة في مكان، فاعلموا أن الاتساع واقعٌ في مكان آخر، وهذا مبشر عجيب؛ والشدة لما وقعت على المؤمنين بمكة جاء الفرج بالهجرة، فالفرج لم يأت في البداية في دارهم الأصلية مكة، لكنه جاء في مكان آخر، وقد كانوا يبحثون عن مكانٍ مطمئنٍ، فهاجروا إلى الحبشة، فلم يكن المطمأن هنالك، بل كان بالأرض التي هي بين الحرتين، وقد أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أرضٌ ذات حرارٍ ونخلٍ بين جبلين، فظنها الأحساء وهجر فكانت المدينة، إن وعد الله سبحانه وتعالى حق، ولا بد أن يتحقق، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الناصرين لدينه، وأن يعزنا بالدين، وأن يعز بنا الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.