ومن أجل هذا فإن تفاوت الناس في العلم إنما هو بحسب ما بذلوه من الجهد والوقت حتى يحفظوا ويفهموا، وبعد ذلك عليهم أن يبلغوا، وقد ذكر العلماء آداب ذلك مرتبة: فأولها: الاستماع.
لقول الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18].
الثاني: الفهم.
لأن ما استمع إليه فلم يُفهم لا يستفيد به الإنسان، بل يكون كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16].
الثالث: الحفظ لما سمعه وفهمه.
فالحفظ هو القيد الثالث في ذلك.
الرابع: العمل بما سمعه.
وفهمه.
وحفظه.
الخامس: بث ذلك ونشره، ومعناه: تعليم ما سمعه وفهمه وحفظه وعمل به، ولابد أن يتأخر التعليم عن هذه القيود السابقة، فإذا كان يسمعه ويفهمه ثم ينقله إلى غيره دون أن يعمل هو به ودون أن يحفظه فإنه لابد أن يتخالف قوله، ولا يكون متقناً لما يحدث به، ثم إذا سمعه وفهمه وحفظه فأراد أن يُسمعه وأن ينقله إلى غيره قبل أن يعمل به كان كالداعي لما لم يعمل به، وهذا مخالف لهدي الأنبياء، فقد قال الله تعالى حكاية عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، فلذلك لابد أن يبدأ هو بتعلم ما يدعو إليه، ثم بعد ذلك يبلغه للناس حتى يعملوا به، ولهذا فإن ابن الجوزي رحمه الله كان من الخطباء المؤثرين، وكان إذا خطب بكى وأبكى، فلا تقع نازلة ولا أمر، يهم الناس إلا قدم فيه خطبة يرجع الناس إليها، حتى ولو كان كثير منهم يخالفه في المذهب فإنه سيعدل عن مذهبه ويرجع لما قاله ابن الجوزي لحسن أسلوبه، ولما يربط به كلامه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وهذا الأسلوب القرآني هو المؤثر.
فكثير من الناس يدرسون كتب الفقه، فيدرس أحدهم -مثلاً- مختصر خليل، وفيه مائة وعشرون ألف فرع فقه، أو يدرس الرسالة، وفيها ثمانية عشر ألف فرع فقه، أو يدرس غير ذلك من الكتب الفرعية التي فيها كثير من الفروع، لكن لا نجد نور ذلك ولا ورعه في حياته وسلوكه.
وسبب ذلك أنه لم يقترن ما تعلمه بالوعد والوعيد، ولم يقترن بالترغيب والترهيب، بل قرأ هذه الأحكام جافة كمواد القانون الوضعي، وإن كان أولئك العلماء ما قصدوا بهذا إلا خيراً، لكنهم علموا أنهم يضعون مناهج لمدارس فيها تخصصات مختلفة، وفيها كتب مساندة مساعدة، فـ خليل رحمه الله ألف كتاباً آخر سماه (الجامع)، ذكر فيه آداب طلب العلم، وذكر فيه الأخلاق، وتهذيب النفوس، وربطه بهذا الجامع، وكذلك غيره، فـ ابن أبي زيد في رسالته وضع في مقدمتها المقدمة العقدية، وفي خاتمتها (الجامع) الذي فيه الآداب والأخلاق الشرعية.
لكن كثيراً من الناس يقتصر على دراسة ما بينهما، فيهمل الطرف الأول الذي هو الأساس، ويهمل الطرف الثاني الذي هو ذروة السنام، ويبقى في الوسط فقط، ومن هنا حصل الخلل في تربية الناس من أجل إهمالهم لجانب حياة القلوب, والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فذات يومٍ كان ابن الجوزي رحمه الله تعالى في مجلسه، وقد تهيأ للجمعة، فأتاه بعض الأرقاء يشكون إليه سوء معاملة ذويهم، وأرادوا أن يخطب خطبة عن العتق فوعدهم خيراً، فلما خطب حضروا فلم يذكر في خطبته شيئاً عن العتق، فجاؤوه فقالوا: ألم تعدنا بأنك ستتكلم عن العتق في خطبتك؟ فقال: حتى الآن لم يتيسر لي ذلك، فأتوه يذكرونه بعد ذلك فلم يفعل، فلما كانت الخطبة الثالثة خطب خطبة بليغة، فبادر الناس إلى عتق أرقائهم، فأتاه هؤلاء يشكرونه وسألوه عن سبب التأخير؟ فقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن أخطب الناس وأندبهم إلى أمرٍ لم أفعله، ولم أكن أملك من أعتقه، فذهبت أجمع دريهمات أشتري بها رقبة وأعتقها حتى إذا أمرت الناس امتثلوا؛ لأنني قد انتهيت في نفسي.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أراد أن يأمر الناس بأمرٍ جمع أهل بيته وآل الخطاب فقال: (إني متقدمٌ إلى الناس في هذا الأمر، وأنتم أول من أتقدم إليه فيه، فوالذي يحلف به عمر بن الخطاب لا ينقل إلي أن أحداً منكم خالف ذلك إلا جعلته نكالاً)، فيبدأ بآل بيته -وهم أول من ينهاهم ويعظهم- ثم بعد ذلك يوجه الكلام للناس، وسيمتثلون ما يأمر به بعد أن يمتثل به آل الخطاب ومن يتأثر بـ عمر رضي الله عنه.