ثم بعد هذا الشرط الأول -الذي هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى- تأتي شروط أخرى يعد بها الإنسان نفسه ليلتحق بهذا الركب، وليكون من الذين يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلمون، وقد ذكر العلماء منها عدة شروط كلها بتجربة من هدي الأنبياء والصالحين.
فمن هذه الشروط: الغربة، فمن جلس في مكانه بين أهله قل ما يحصل على علم، ولذلك يقول الشاعر: الأهل والجهل ساكنان في بلد فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني حتى لو كان أبوه عالماً فأزهد الناس في العالم أهله، فيمكن أن يعيش الشخص في البيت مع عالم من العلماء الأجلاء لكنه يكون زاهداً فيه بقربه منه، ومن هنا رحل موسى عليه السلام إلى الخضر، وقال: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60].
ولم ينل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي حتى حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار (حراء) فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ويرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى جاء الحق.
وكذلك فإن الذين اشتهروا بالعلم من هذه الأمة إنما رحلوا في سبيله، وطلبوه في أماكن مختلفة، ولذلك فإن كثيراً منهم عندما يسألون عن منتهى آمالهم يقولون: إسنادٌ عالٍ -وبيتٌ خالٍ- كما كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إذا سئُلا عن بغيتهما يقولان: إسنادٌ عالٍ وبيتٌ خالٍ.
أي: أنهما يبحثان عن أعلى الناس إسناداً، كالذي ليس بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة رجال في طبقة أحمد مثلاً، فهذه ثلاثية أحمد، وهي الأحاديث التي رواها عن أبي الزبير عن جابر، فأولها حديث: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذه الأحاديث تكون عالية الإسناد جداً، ولهذا كانوا يبحثون عنها لسهولة تصحيحها، ولأنها لم يتناقلها كثير من الناس.
ثم بعد ذلك بيت خالٍ يتفرغ فيه الإنسان للعلم، ويستطيع فيه أن يراجع، وأن يحفظ، وأن يستذكر ويتدبر، ولذلك يقول آخر: قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصَّبرا لا يدرك العلم بطالٌ ولا كسل ولا ملول ولا من يألف البشرا فلابد من هذه الغربة.