إن الذي اؤتمن على هذه الأمانة فلم يؤدها قد تعرض لوعيد شديد، ققد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم؟! فوالذي نفس محمد بيده ليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو ليعاجلن لهم العقوبة)، فقد شدد على أولئك الذين حملوا بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤدوه حق أدائه؛ لأن ما جاء به قد سلمه وأداه إليهم، وهذا من تمام رسالته، فهو رسولٌ إلينا جميعاً ولم يلقنا؛ لأن الله تعالى شاء أن يقبضه عند عمره المحدد، لكن بقيت رسالته ودعوته في أعناق الذين تحملوها أمانة لديهم، فتبليغهم لها من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم لها، فيجب عليه أن يبلغ من تقوم به الحجة، ويسقط عنه بعد ذلك، كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]، فإنما يلزمه أن يبلغ من تقوم بهم الحجة على الناس، وقد فعل ذلك، ثم بقي أن كل من بلغه شيء عنه يجب عليه أن يبلغه، وتبليغه من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ورسالته، فيقوم بالخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء ما تحمل على الوجه الصحيح، ويكون كالوصية التي لا يحل فيها التغيير ولا التبديل، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة:180 - 181].
فلذلك من بلغه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فيجب ألا يغير فيه وألا يبدل، وأن يؤديه ويبذله لمن طلبه، ومن أجل هذا حض الرسول صلى الله عليه وسلم على أقوامٍ سيأتون في آخر الزمان يلتمسون علمه وما جاء به، وأخبر أنهم وصيته، فقال: (ليأتينكم أقوام يطلبون هذا العلم، فاستوصوا بهم خيراً)، فجعلهم وصية يجب الرفق بهم والتلطف إليهم؛ لأنهم جاؤوا بوصية سابقة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن حصول الشرف للإنسان يوم القيامة إنما يكونُ بحسب علمه؛ لأنه لا يمكن أن يكون عاملاً إلا بما تعلم، وما لم يتعلمه من هذا الدين فإن قدر على تعلمه حسب عليه وحوسب عليه حينئذ، وما قدر على تعلُمِه وتعلَمَه وعمل به نال ثوابه، وما قدر على تعلمه فتعلمه ولم يعمل به كان حجة عليه، وكان أيضاً في ميزان سيئاته، فلذلك يلزم أن يقبل الناس على طلب هذا العلم، وأن يخصصوا له جزءاً من أوقاتهم، وليس المقصود أن يعطلوا أعمالهم وأن يلتحقوا بمدارس فيتركوا مصالح الأمة متعطلة، بل المقصود أن يتعلم كل شخص منهم ما تيسر، وأن يخصص جزءاً من وقته على حسب طاقته بما تيسر من هذا العلم، كما قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20].
فلم يعذر أحداً من هؤلاء، لا التجار، ولا المجاهدون في سبيل الله، ولا المرضى، وهؤلاء كل فئة منهم تمثل فئة جليلة من فئات هذه الأمة، وتمثل طبقةً من طبقاتها، ولذا لم يعذر أحداً منهم في ترك التعلم، بل أمرهم أن يتعلموا ما تيسر وما يكفيهم بقيام هذه المهمة وهذا الواجب، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ومن أجل هذا حض الله تعالى في كتابه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن على نقل هذا العلم الذي سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأين، وكان خصوص أمرهن بذلك أنهن يشاهدن من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهدن منه ما لا يشهده كثير ممن سواهن، فلذلك قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وهذا يشمل ما فعل وطبق عملياً وما سمعنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولياً، فأمرهن بتبليغ ذلك كله.
ومن أجل هذا كان لأمهات المؤمنين أبرز حظ ونصيب في تبليغ هذه الرسالة ونقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل ما أفتى به ونقل أحواله كلها إلى الأمة، وقد سعين لتبليغ ذلك وتعليمه، وهذا هو الذي ائِتسى بهن فيه من خلف من علماء هذه الأمة على مختلف العصور، فقد كان كثير منهم يقتدي بـ أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال: (والله لأرمين به بينكم)، وكذلك يقتدي بـ أبي ذر الذي قال: (والله لو جعلتم الصمصامة على هذه -وأشار إلى قفاه- وعلمت أني أنفذ خبراً واحداً مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا علي لأنفذته).
فلذلك سعى هؤلاء الأسلاف إلى تبليغ هذا العلم في مختلف الظروف، حتى إن بعضهم كان سجيناً فيجد النافذة في وقت من الليل يجتمع عليها أفراد من الناس فيملي عليهم العلم، ولا يجيبهم في شيء من السؤال عن أحواله هو؛ لأن الوقت ضيق، وهو أمانة لديه، فيملي عليهم شيئاً مما اؤتمن عليه فيكتبونه.
والسرخسي رحمه الله أملى كتابه (المبسوط) وهو سجين في السجن، يقال: إنه كان في بئر، وكان الطلاب يقفون حيث يسمعون صوته ويكتبون عنه من مكانه ذلك، حتى كتبوا هذا الكتاب الكبير -المبسوط- الذي يزيد على ثلاثين مجلداً.
وكذلك كان عدد منهم إذا مرض قال: إنه ما يسره إلا أن يبلغ ما في هذا الكتاب، أو أن يبلغ هذا العلم الذي رواه.
وعدد كبير منهم سعى في مرض موته بأن يبلغ أكبر حظ ممكن من العلم الذي معه، حتى كان الأطباء يتضجرون من ذلك، كحال ابن عرفة، وكحال عدد كثير من الذين مرضوا وعولجوا، فإن كثيراً منهم كان يُتعب نفسه في أيام المرض؛ لأنه يعلم أنه منتقلٌ عن هذه الدنيا وميت لا محالة، فيريد أن يبلغ شيئاً من العلم الذي حمله قبل أن يذهب وينتقل معه.