من أهم ما يشتغل به الإنسان في العصر الذي نحن فيه في بداية الطلب: ما يتعلق بلغة العرب التي بها نزل القرآن، وبها تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان الذي ليس لديه تأسيس لهذه اللغة لا يستطيع التلقي، ولا الفهم عن الله، ولا الفهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالناس الآن لم يعد أحد منهم عربياً بالسليقة، بل كلهم يدرسون أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، كل الناس يدرسون هذا، ولا يستطيع أحد أن يتكل على سليقته في عالمنا المعاصر، فإذا كان الحال كذلك احتاج الإنسان إلى أن يأخذ من لغة العرب بعلومها المختلفة مبادئ تأسيسية، وهذه المبادئ لابد أن يبدأ فيها بمفردات اللغة، وقديماً كان الناس يحفظون في مفردات اللغة دواوين العرب، والوقت اليوم ضيق عن متابعتها، وفيها كثير من المضامين السيئة، نعم؛ فيها بعض الشعر الذي فيه مروءات، وفيه شهامة، يحض على الكرم والضيافة والشجاعة والأخلاق الحميدة، لكن منها أيضاً أشعار أخرى مضامينها سيئة، وكذلك بعض الدواوين الإسلامية، وقديماً كان بعض أهل العلم يذكرون أن ديوان غيلان بن عقبة المنقري التميمي فيه ثلث مفردات اللغة العربية، ولكن الواقع أن الديوان أيضاً فيه ما في أشعار الجاهليين، فيه كثير من الغزل، والمدح لأقوام قد لا يستحقون ذلك المدح كله، وفيه معاني كبيرة يحتاج إليها الإنسان في تأسيس لغته وتقويم لسانه، وفيه ألفاظ يحتاج إليها الإنسان كذلك في فهم الكتاب والسنة، وقد كان الأولون يحفظون أشعار الناس جميعاً، ف عبد الله بن العباس رضي الله عنهما كان لا يسمع شعراً إلا حفظه؛ ولذلك كان ترجمان القرآن، واشتهرت مسائل نافع بن الأزرق رئيس الخوارج لما أتاه في مكة يسأله عن تفسير كتاب الله، فكان كلما سأله عن كلمة بين له معناها، فيقول: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فيقول: نعم، أما سمعت قول فلان فينشده، فمنها أنه سأله عن آية: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ما معنى مجذوذ؟ قال: غير مقطوع، قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري: فترى خلفها من الرجع والوقع منيناً كأنه إهباء فكان يسأله عن المسائل ويسأله عن شواهدها من اللغة، وبينما هو معه إذ جاءه عمر بن أبي ربيعة المخزومي وهو شاب من قريش في حداثة سنه، فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر، فأنشده قصيدته: أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر بحاجة نفس لم تقل في جوابها فتبلغ عذراً والمقالة تعذر تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر وهي ثمانية وستون بيتاً، فأنشدها كاملة فحفظها ابن عباس، فقال له نافع بن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! نضرب إليك آباط الإبل في طلب العلم فتعرض عنا، أو فتضجر بنا، ويأتيك شاب حدث من قريش ينشدك سفهاً فتسمعه! فقال ابن عباس: ما سمعت سفهاً، فقال: بلى أما سمعت قوله: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشي فيحصر فقال: ما هكذا قال، إنما قال: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر ولو شئت أن أعيدها عليك لفعلت، فلما كان من الغد سأله عن قول الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119]، قال: ما معنى تضحى؟ قال: تبرز للشمس، أما سمعت قول المخزومي بالأمس: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر فلابد من التأسيس في اللغة.