المخاطرة

الشرط الخامس من هذه الشروط هو: المخاطرة: والمقصود بها أن تهون على الإنسان نفسه في طلب العلم، حتى يسترخص حياته، ويسترخص ماله، ويسترخص علاقاته في سبيل الحصول على العلم، فموسى عليه السلام ما نال العلم حتى ركب في سفينة مخروقة في عمق البحر، وهذه من المخاطرة، وأهل العلم من هذه الأمة خاطروا في طلبه بالأسفار الشاقة والطويلة، أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: ما بقيت قرية ولا مدينة من مدن الدنيا يذكر فيها حديث إلا سافرت إليها على رجلي هاتين.

والبخاري رحمه الله سافر من العراق قاصداً عبد الرزاق بن همام الصنعاني بصنعاء، فلما وصل إلى مكة قيل له: مات عبد الرزاق، فرجع من مكة إلى البصرة، فقيل له: إن عبد الرزاق حي يرزق فرجع إلى مكة على رجليه حتى جاءه الخبر اليقين بأن عبد الرزاق قد مات، وكل أحاديث عبد الرزاق عند البخاري بواسطة، لكن أراد أن يسمع منه مباشرة، أراد علو الإسناد، فسافر سفرين: من العراق إلى مكة مع الرجوع من أجل علو الإسناد فقط! مخاطرات كبيرة، وأسفار شاقة جداً.

وسافر أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، وسافر جابر بن عبد الله من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وسافر أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد.

ويقول المكي بن إبراهيم -وهو شيخ البخاري الذي يروي عنه ثلاثياته التي هي أعلى شيء في صحيحه-: كتبت بأصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه يحتاج إلي لكتبت عن أكثر.

فهؤلاء الأئمة خاطروا مخاطرات كبيرة جداً في طلب العلم، وتعبوا ونصبوا في جمعه، فأحرزوا منه ما أحرزوا، فلذلك لابد أن تهون على الإنسان نفسه في طلبه، فـ زكريا الأنصاري رحمه الله فقد بصره في طلب العلم، كان يقرأ الليل كله ولم يكن ذا مال، وكان سراجه ضعيف الضوء، ففقد بصره بسبب ذلك، وعدد كبير من العلماء فقدوا بعض أطرافهم أو أجزائهم بالمخاطرة في طلب العلم.

إذاً: لابد أن تهون على الإنسان نفسه في الطلب، وهذا شرط للحصول عليه، فالدر والحجارة الكريمة لا ينالها من لم يخاطر في طلبها، ومن لم ينغمس في البحر ويخاطر لا يمكنه أن يصل إلى هذه اللآلئ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015