وهذا الصبر الذي هو عدتنا في هذه الحياة ينقسم إلى ثلاث شعب منها الصبر عن معصية الله، فشعبة الصبر الأولى أن يصبر الإنسان عن معصية الله.
وهذا الصبر له بواعث منها: الوازع الديني الذي يكون في قلب المؤمن وهو برهان الله في قلبه يحول بينه وبين المعصية، والناس فيه متفاوتون، وهم فيه أنواع: النوع الأول: من يقوى وازعه في قلبه فيحول بينه وبين المعصية كالجبل، فلا يشم لها رائحة ولا يرى لها لوناً ولا حركة، ولا يسمع لها صوتاً، فهو محفوظ منها بالكلية، وهؤلاء هم الذين خلصهم الله لعبادته، فهم عباد الله المخلصون، وهم السابقون بالخيرات بإذن الله.
والنوع الثاني: من يكون الحاجز بينهم وبين المعصية ويكون هذا الوازع في قلوبهم كالزجاج لا يستطيعون اختراقه والنفوذ منه، لكنهم يرون ما وراءه من الحركات والألوان، فربما شغلهم وربما أخذ جزءاً من تفكيرهم، وهؤلاء لا شك دون الأولين، ولكنهم مع ذلك على خير؛ لأنهم لا يستطيعون النفوذ إلى المعصية.
والنوع الثالث: الحاجز بينهم وبين المعصية وهذا الوازع في قلوبهم كالماء، يمكن اختراقه بصعوبة، وقد يحجز بعض الأصوات وبعض الروائح، ولكنه ترى من ورائه الحركة والألوان، وينفذ منه بعض الأصوات، وتنفذ منه بعض الروائح، ويمكن اختراقه لكن بصعوبة، وهؤلاء أيضاً هم الظالمون أنفسهم الذين يمكن أن يخترقوا فيوقعهم الشيطان ويستزلهم في بعض الأحيان في بعض المعاصي، لكنهم سرعان ما يتوبون ويرجعون، وهم على خير بذلك؛ لأن الإنسان إذا كان كلما عصى بادر إلى التوبة فهو على خير، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:17 - 18].
والنوع الرابع: الذين يكون الحاجز بينهم ويبن المعصية كالهواء، فهم معها في لحاف واحد، يغشونها في كل الأوقات لا يحول بينهم وبينها رؤية ولا سماع ولا رائحة ولا حركة ولا لون، وهؤلاء ضعف وازعهم الإيماني فلم يبق معهم من الصبر إلا أثره فقط، وهؤلاء هم أكثر الخلائق، فأكثر الخلائق في هذه الحياة ليس لهم من الصبر عن معصية الله إلا أثره فقط.
ولذلك تجدون أن جمهور الذين يعيشون في هذه الحياة لا يميزون بين دائرتي الحلال والحرام، بل إذا عرضت على أحدهم مصلحة دنيوية لم يسأل نفسه هل هي حلال أو حرام؟ وإذا فكر في أمر لم يكن من خطوات تفكيره هل هو حلال أو حرام؟ بل ينظر ما يترتب عليه من المصالح، وماذا يجنيه منه من الأرباح، لكن لا يفكر هل هو حلال أو حرام؟ فدائرة الحلال ودائرة الحرام قد تحطم الحاجز بينهما فاختلطتا لديه فأصبحتا دائرة واحدة، وهذا حال جمهور الناس.
لكن الذين يميزون بين الحلال والحرام فيفرون من الحرام كما يفرون من الأسد ولا يحضر لهم على بال أصلا، ويقنعون بالحلال الذي أحل الله لهم ولا يتعدونه إلى ما سواه، فهؤلاء قد قوي وازع الله في نفوسهم وهم المتقون؛ ولذلك قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202].
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف:201]، والطائف: نسيم الرياح الخفيف الذي يأتي بسرعة ويذهب، وفي القراءة السبعية الأخرى: قراءة عبد الله بن كثير المقرئ وأبي جعفر القارئ (إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) والطيف: ما يراه الإنسان في المنام، ومدة الرؤيا في النوم لا تتجاوز ثانية واحدة، يرى الإنسان الرؤيا الطويلة التي هي كالملحمة في مدة ثانية واحدة.
(وإخوانهم) أي: إخوان الشياطين (يمدونهم في الغي) فيزيدونهم ويساعدونهم على الاستمرار في الغي ويشجعونهم عليه، ويقولون: افعلوا كما يفعل الناس، فهذا الأمر أصبح معمولاً به وأصبح سائداً لدى الناس فلم يعد فيه حرج، بل ينصحون به ويقولون: عليك أن تفعل كما يفعل الناس، وأن تتكسب كما يتكسب الناس