صنهاجة قرية أصلها من اليمن، وهي معروفة إلى وقتنا هذا، وربما تكون النسبة إليها؛ لأن هؤلاء من النازحين المنطلقين من تلك البلاد، وكانت هذه البلاد سائبة، وأهلها همجاً حتى دخلها الفاتحون الأولون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان، وكان ذلك أواخر خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان القائد الذي افتتحها هو عقبة بن نافع الفهري من بني الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقد فتح هذه البلاد ولم يتوسع في فتحها إلى الجنوب، وإنما فتحها شريطاً حتى وصل إلى المحيط فغرز رمحه فيه، وكان المحيط في ذلك الوقت يسمى بحر الظلمات، وهو المسمى اليوم بالمحيط الأطلنطي، فلما غرز فيه رمحه أشهد الله تعالى أنه لو كان يعلم أن خلف هذا البحر ذا نفس منفوسة لقطع البحر إليه حتى يبلغه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فـ عقبة لو كان يعلم أن خلف هذا البحر أمريكا والعالم الجديد -كما يسمونها- لخاض البحر إليها حتى يفتحها، وحتى يبلغها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أحفاده فحملوا هذه الرسالة، ولذلك تسمع اليوم في العالم الجديد -أمريكا- الأذان مدوياً في الأوقات الخمسة.
وقد رجع عقبة من هذه البلاد ولم يدوخها تمام التدويخ؛ لأن أهلها كانوا بداة يصعب دخولهم تحت يد الحضارة والإمارة، ولما رجع غدر به كسيلة البربري فقتله فلقي الله شهيداً، نسأل الله تعالى أن يتقبله، وأن يتقبل أصحابه الذين قتلوا معه.
ثم استمرت العلاقة الإدارية في هذا البلد تابعة للخلافة عن طريق الإمارة التي كانت في بداية أمرها في القيروان في تونس، ومنها انطلقت الفتوحات التي فتحت أيضاً أرض الشمال كالمغرب، ثم توسعت إلى الأندلس وقاد حملتها موسى بن نصير، وهو مولى سليمان بن عبد الملك، ثم تابع الحملات طارق بن زياد حتى فتح الأندلس.
وبقيت هذه البلاد تنتسب إلى الإسلام، ويتسمى أهلها بأسمائه محرفة على اللغة البربرية، فمثلاً كانوا يسمون محمداً (مهمد)، ويسمون أحمد (همد)، ويسمونه أيضاً: (هند) في بعض البلدان، وكل هذا من التحريف البربري في الأعلام.
واستمرت الحالة هكذا إلى أن خرج أحد أمراء هذه البلاد وهو يحيى بن إبراهيم القدالي من قبيلة (قدالة)، وهي بطن من بطون (مسوفة) التي هي من قبائل (صنهاجة).
فرحل إلى المشرق طالباً الزيادة في الدين والحج، فلما رجع من الحج وصل إلى القيروان -وكانت أكبر حواضر المغرب في ذلك الوقت- فلقي أبا عمران الفاسي وكان من علماء المالكية الكبار، فسأله أن يرسل معه من خيرة طلابه لينشر العلم والدين في هذه البلاد، فرأى أبو عمران أن الذين عنده لا يصلحون للبادية وأهلها، فهم من أهل الحاضرة ومن أهل القيروان المتعودين على حياة الرفاهية وسعة العيش، فكتب له كتاباً إلى تلميذه وجاج بن زلو وهو من المغاربة، وطلب منه أن يرسل معه من خيرة طلابه من ينشر العلم والدين في هذه البلاد، فلما جاء الكتاب إلى وجاج اختار من بين طلابه عبد الله بن ياسين السجلماسي، وهذا الرجل في الأصل من (جزولة)؛ ولذلك تجدون نسبته عبد الله بن ياسين الجزولي في بعض الكتب، وكان حاد الذكاء، مفرطاً في الفهم، وكان عالماً عملاقاً، ومع ذلك كان أيضاً صاحب سياسة وتدبير، فاختاره وجاج لتحمل هذه المسئولية، فكان عند حسن ظنه، فلما جاء إلى هذه البلاد ورأى حال أهلها، علم أن الدعوة الفردية لا يمكن أن تؤثر فيهم.