إن هذا العمر هو أغلى ما يمتلكه الإنسان، وعليه أن يعلم أن كل لحظة يعيشها في هذه الدنيا هي حجة قائمة عليه لله، وأن كل وقت يمضيه فيها إذا لم يستغله في طاعة الله فهو خسران عظيم، لهذا فقد أخبرنا الله في كتابه أن الناس يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت، فمن ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، وفي الآيات من خواتيم سورة الزمر يقول الله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر:56 - 58] أي: رجعة إلى هذه الدنيا، {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58].
فهذا العمر يندم الإنسان على ما مضى منه إذا عمر وطال به العمر، فتذكر السنوات التي مضت ولم يستغلها في طاعة الله، وتذكر أنه كان في عافية وفراغ وأن ذلك قد زال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ).
وتذكر أن ساعات طويلة كان يمضيها في غير طائل هي الآن في كفة السيئات وليست في كفة الحسنات، والميزان يوم القيامة ليس له إلا كفتان، فإذا تذكر الإنسان هذا ندم على ما أسرف وعلى ما مضى من عمره بغير طائل، وكذلك إذا قبضت روحه فبدا له أمر الآخرة، عندما يوضع في قبره ويوضع تلك الضجعة التي يبدو له فيها من الله ما لم يكن يحتسب، كما قال الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، ونقل إلى القبر الذي إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة من حفر النار، وهو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، كل مرحلة بعد القبر تنسي التي قبلها، وهو ينسي كل ما مر على الإنسان في هذه الدنيا.
ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.
في هذه الليلة التي يبيت فيها الإنسان في القبر ولم يبت مع الموتى قبلها سيستحضر أنه كان في هذه الدنيا وأتيحت له الفرصة للنجاة، ولكنه فرط وقصر، فلهذا يقول أمثلهم طريقة: إن لبثتم إلا يوماً.
يستقل ما أمضاه في هذه الدنيا من العمر، ويرى أنه وقت يسير جداً.
كذلك الندم الآخر عندما تعرض عليه صحائفه ويتذكر أنه كتبت أعماله كلها، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
إذا عرضت عليه هذه الصحائف فرأى أنه قد أتيحت له فرصة وعمر في هذه الدنيا، وكان بالإمكان أن يكون من الفائزين الناجحين الذين رجحت كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم، وهو يرى تطاير الصحف، ويرى وزن الأعمال، ويرى مثاقيل الذر توزن بها الحسنات والسيئات، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
إذا رأى ذلك فسيندم، كما قال الشاعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا ولهذا فإن تذكر الإنسان للموت مما يعينه على صرف الشواغل التي تشغله عن استغلال العمر في طاعة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها؛ فإنها تذكركم الآخرة).