Q ما تعليقكم على ما يطرح اليوم في الساحة مما يسمى بالتجديد في الدين وفقه الواقع، وينادي أصحابه بطرح بعض النصوص؛ نظراً لأنها لا تنسجم مع واقع اليوم، ويقولون: لكل زمان فقهه وواقعه، مستدلين لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، فما هو حد هذه الأشياء التي لا يبحث عنها؟
صلى الله عليه وسلم جوابنا أنه لا شك أن كل زمان له واقع يختلف فيه الحكم باختلافه، لكن مع ذلك فإن التجديد له إطار محدد، فلا بد أن يقتصر فيه الإنسان على المأذون فيه بالتجديد، وعلى مواقع الاجتهاد، ولابد من التمييز بين ثوابت الشرع ومتغيراته، فللشرع ثوابت هي الأصول، لا يمكن التطوير فيها ولا التغيير، وفيه متجددات وهي ما يتجدد باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والنيات، وهذه كثيرة وأحوال الناس فيها واضحة؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما كنت نهيتكم من أجل الدافة)، حينما نهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي، وبين صلى الله عليه وسلم في عدد كثير من الأحاديث أحكام الضرورة، وبين أن الضرورة تبيح المحظور، وهذا ما جاء في قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وفي قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] وفي غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا فلا بد من فقه واقع الناس؛ حتى يعرف الإنسان هل هم أصحاب ضرورة أو أصحاب حاجة؟ وما هو قدر تلك الضرورة حتى لا يتعدى محلها؟ وكذلك لا بد من فقه الدين حتى يؤخذ من الدين الحلول للمشكلات الواقعية؛ لذلك يقول الشاطبي رحمه الله: كل حكم شرعي مؤلف من قضيتين: قضية صغرى واقعية وقضية كبرى شرعية، فمثلاً: لو صلى إنسان إلى جهة الغرب في هذا المكان، فقلت له: صلاتك هذه باطلة؛ فهذا حكم شرعي مؤلف من قضيتين، إحداهما: واقعية وهي الصغرى، وهي أن هذه الصلاة إلى غير القبلة، والقضية الثانية: هي أن كل صلاة إلى غير القبلة فهي باطلة وهي قضية شرعية.
ومن هنا: فإن الخوارج إنما ضلوا بسبب إرادتهم تحكيم النصوص دون الذهاب إلى الواقع، عندما نادوا بتحكيم كتاب الله فقط، وأرادوا أن يكون القرآن حاكماً وأن لا يحكم الرجال في كتاب الله، قال علي رضي الله عنه: إنها دعوة حق أريد بها باطل، فهم أنكروا على علي رضي الله عنه تحكيم الرجال في كتاب الله، وقالوا: إن القرآن هو الحاكم ولا يحكم فيه الرجال، فعندما ناظرهم ابن عباس في هذا قال: أرأيتم قتل أرنب في الحرم أعظم أم قتل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بل قتل الأمة أعظم، قال: فإن الله تعالى حكم الرجال في كتاب الله في أرنب تقتل في الحرم، فقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] فأقنعهم بهذه المسألة.
إن كثيراً من الناس يظن أننا إذا قلنا بتجدد الاجتهاد، أو بتجدد آلياته، أو بمراجعة بعض الشروط الاجتهادية التي يضعها الفقهاء يظن أن هذا معناه: هدم بعض ما تقرر من الشرع! لكن شتان، وهيهات، فثوابت الشرع هي ما جاء في النص من القرآن والسنة واضح الدلالة، وهذه لا تقبل التبديل ولا التغيير.
أما الأمور الاجتهادية فهي متقلبة باختلاف أحوال الناس، فلا شك أن الشارع جعلنا بين سورين أحدهما: سور الرخصة والثاني سور العزيمة، فسور الرخصة يؤخذ به للضعفاء والمعذورين، وسور العزيمة يؤخذ به للأشداء والأقوياء، وبين الأمرين تأتي التفصيلات والخلافات الفقهية، فلا تخرج من بين هذين السورين: سور الرخصة وسور العزيمة.
فلهذا لا بد من فقه الواقع؛ لقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وفقه الواقع يقتضي من الإنسان أن يعلم المصالح والمفاسد المترتبة على الأمور في الواقع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه الأحزاب فاجتمعوا عليه في المدينة، عرض على هوازن أن يرجعوا عنه عامهم ذلك وأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولا شك أن دفع مال المسلمين للكافرين الذين يحاربون المسلمين محرم، ولكنه ارتكب أخف الضررين، فأراد بذلك رد المشركين في تلك السنة بالمال الذي يدفع لهم.
ومثل ذلك ما حدثنا الله به عن لوط عليه السلام عندما قال لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، فلا شك أن تزويج المسلمة للكافر محرم لقول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، لكن الاعتداء على الملائكة أعظم من تزوج الكافر بالمسلمة.
وكذلك ما يتعلق بتنزيل النصوص في مواضعها ومنازلها، فإن كثيراً من المفسرين يفسرون آيات القرآن على حسب ما أوتوا من العلم في زمانهم، ثم تتجدد الوسائل الأخرى، والله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن بأسلوب واحد، لو كان كذلك لفهمه الصحابة جميعاً ولم يبق للتابعين منه حظ ولا لأتباع التابعين، ولا لمن بعدهم، والواقع أن كل قوم لهم حظ من كتاب الله يدخر لهم فيه من الفهم ما يقضي حاجياتهم، ويغطي كل النوازل التي تتجدد لديهم.
ولهذا فالنوازل والوقائع غير محصورة، كل يوم تتجدد النوازل والوقائع التي لا عهد للمسلمين بها، وكل نازلة لله فيها حكم، وذلك الحكم لا يمكن أن يؤخذ إلا بالاستنباط، فلهذا يحتاج إلى إعمال الاجتهاد وفق الضوابط الشرعية للوصول إلى الحلول في كل مشكلة تنزل، وحينئذ لن يكون ذلك الحل قطيعاً لأنه اجتهاد، لكن مع ذلك يتعبد الله به؛ لأن الله أمرنا بإعمال الاجتهاد وبتدبر القرآن وحض على ذلك وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] والرسول صلى الله عليه وسلم حض كذلك على إعمال الاجتهاد والعقل، فقال ل عمرو بن العاص حين أمره بالقضاء فقال: أأقضي بين يديك، فقال: (اقض، فإن أصبت أقررت، وإن أخطأت رددت عليك)، وقال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإن اجتهد فأخطأ كان له أجر)، ولهذا فلا مشاحة في الأمر، فقد يتجدد من الوقائع ما يوجد له حلول في الكتاب وما يوجد له حلول في السنة، وما يوجد له حلول في القياس، ومن لم يستوعب تلك الوقائع ولم يفهمها لا يمكن أن يفتي فيها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ولهذا فالعقود الحديثة الكثيرة واستغلال الأجهزة الحديثة في الإثبات وغيره، في أجهزة الاتصال ونحو ذلك من لم يستوعبها ويفهمها لا يحل له الإفتاء فيها، ومثل ذلك أمور تنظيم الدولة والمؤسسات والشركات، فالأمور التنظيمية كلها من لم يكن مستوعباً لها لم يحل له الإفتاء فيها؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، ويقول تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] فكل أمر يتجدد إنما يفتي فيه أهله ولا يحل استفتاء الذين لا يفقهون هذه الأمور فيه، فالذي يذهب الآن بالعقود الحديثة عقود البورصات فيستفتي فيها فقيهاً من أهل البادية، ما عرف شيئاً من الاجتهاد ولا وسائله ولا أدرك شيئاً من فقه الواقع، هذا أخطأ وساعد على المعصية؛ لأن الفقيه لا يحل له أن يفتي في مثل هذا حتى يستوعبه؛ ولذلك كان مالك رحمه الله يكره أن يسأل في المسائل المستجدة، ويقول: إن للمسائل رجالاً يعاصرونها هم أولى بالاجتهاد فيها، وكان إذا سئل عن نازلة ينظر هل وقعت أم لا؟ فإن لم تقع لم يجب فيها، وإن كانت قد وقعت استعان بالله عليها.