قراءة سير الأفذاذ تشحذ الهمم وتقوي العزائم

إن قراءة سير هؤلاء السلف واتصالهم بالله سبحانه وتعالى وما بذلوه في سبيل دينه من الأمور المثبتة على دين الله، التي يحتاج إليها الإنسان في كثير من مواقفه، فعندما تشتد الأزمات ويتكالب الأعداء على دين الله، يلجأ المسلمون إلى قراءة سير سلفهم الصالح، فيجدون فيها متنفساً، ويجدون فيها تقوية لعزائمهم، وتثبيتاً لهم على منهج الله، وإقناعاً لهم بثوابتهم التي لا تتغير ولا تتبدل، وعندما يضيق حال إنسان في هذه الدنيا فيأسى لذلك، يرجع لقراءة سير السلف الصالح فيجد فيها تسلية عما أصابه، ويجد فيها عزاءً، وثقة بالله سبحانه وتعالى وتوكلاً عليه، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: سير الصالحين جند من جنود الله يثبت الله به قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

أخرج البخاري في الصحيح من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، قال: (فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فقال: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه، فيفرق به فرقتين، لا يصده ذلك عن دينه، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، إن هذه القصة التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال السابقين مثبتة للمؤمنين الذين يكون بلاؤهم دون ذلك، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما آذاه رجل فوقف عليه فقال: يا رسول الله! اعدل؛ فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، ابتسم ونظر إليه وقال: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).

إن تذكر أحوال أولئك والنكبات التي أصابتهم معين للإنسان على التزام طريق الحق والثبات عليه، والإنسان محتاج إلى مراجعة نفسه وزيادة تربيته من خلال سير هؤلاء الصالحين، ومما يحتاج الناس إلى مراجعته اختيارات العلماء في هذا الباب، فمثلاً يحتاج طلاب العلم إلى مراجعة كتاب الذهبي، تذكرة الحفاظ، فقد اختار فيه تراجم عدد من الحفاظ الذين بذلوا أسباباً أنجحها الله سبحانه وتعالى، فحفظوا العلم للناس، وكذلك بقراءتنا لكتابه الآخر (سير أعلام النبلاء) يتبين لنا مواقف كثير من المضحين الباذلين في سبيل الله.

إن كل نوع من الناس عليه أن يقرأ في تراجم الذين يريد أن يجعلهم مثلاً حسناً له، فطلاب العلم عليهم أن يقرءوا سير حفاظ العلم ورواة الحديث، والتجار والأغنياء عليهم أن يقرءوا سير الباذلين في سبيل الله، كسيرة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعد بن عبادة بن دليم وغيرهم من المضحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الباذلين.

وكذلك النساء عليهن أن يدرسن سير نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته اللواتي بايعنه من أهل الإيمان من المهاجرين والأنصار، وكذلك سير من لحقن على هذا الدرب وسلكن هذا الطريق على مر العصور، إن كل شريحة من المجتمع تركن إلى نظيرتها، ويمكن أن تتأثر بها أبلغ تأثر، فإذا قرأ الملوك تراجم الملوك الصالحين، وقرأ طلاب العلم تراجم العلماء، وقرأ التجار تراجم المضحين؛ فإنهم سيحاولون اللحاق بهم، وسلوك طريقهم، ويكون ذلك وقوداً لهم وعوناً لهم على الاستمرار على هذا المنهج وسلوك هذا الطريق، وما لم يفعلوا فإن التربية ستبقى أموراً نظرية يتهمها كثير من الناس بعدم الواقعية؛ ولذلك فإن بيان الإمكان محتاج إليه، كما يقول أهل البلاغة في قول امرئ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علٍ فإن قوله: (مكر مفر مقبل مدبر معاً) لا يمكن تصوره إلا بالمشاهدة، فلما مثله بقوله: (كجلمود صخر حطه السيل من عل) عرف الناس إمكان ذلك.

فلهذا نحتاج إلى بيان الإمكان، وما ذلك على الله بعزيز، وبدراستنا لسير هؤلاء يتبين لنا إمكان تطبيق منهج الله الذي ارتضاه لعباده، وإمكان أن يكون الناس على وفق ما ارتضاه لهم بارئهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وإمكان أن يتدارك الإنسان ما فاته، فهذا العز بن عبد السلام ما طلب العلم إلا بعد أن أكمل ستين سنة، ومع ذلك أصبح مفتي العالم كله، وأصبح سلطان العلماء، بل حين حكم بتكفير أحد وزراء مصر، كان الناس جميعاً لا يلتفتون إليه ولا يتقبلون منه كلمة، بل أرسله الملك برسالة إلى ملك نائي المكان، فلما أتاه بالرسالة قال: من أنت؟ فقال: وزير من وزرائه، قال: لا تكن أنت الذي كفرك العز بن عبد السلام، فبهت الرجل فقال: أخرجوه عني فهو الذي كفره العز بن عبد السلام.

وحين غاضب ملك مصر خرج من مصر على أتان وحمار له، يحمل على أحدهما زوجه وعلى الآخر كتبه، فلما رآه الناس خارجاً من مصر خرجوا جميعاً في أثره، فجاء الجند إلى الملك، وقالوا: إذا كنت تريد أن تكون ملكاً على مصر فقد خرج أهلها جميعاً مع العز بن عبد السلام، فإنك لن تكون ملكاً إلا على الخلاء الذي ليس فيه أحد، فذهب الملك إليه يسترضيه ويسترجعه حتى رجع.

وهذا النووي رحمه الله الذي خرج من نوى شاباً حدث السن، وذهب إلى دمشق، واشتغل بطلب الحديث، عزم على أن لا ينام مضطجعاً حتى يعود إلى أهله، فمكث في دمشق سبع عشرة سنة ما نام مضطجعاً، لا ينام إلا مستنداً على سارية من سواري المسجد ويضع عينيه على يديه فوق ركبته؛ لكي لا يستغرق في النوم عن طلب العلم، ولهذا كان أسلافنا يقولون: الحر فيما مشى.

وكذلك لم يأكل خياراً مدة مقامه بدمشق، قال: إن أكله يؤدي إلى الركون إلى الدنيا، فلم يأكل خياراً مدة مقامه في دمشق، والخيار نوع من البقول معروف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015