إن أولئك الذين تربوا تلك التربية النافعة هم الذين تحملوا المسئوليات، وإن هذه التربية لا بد فيها من ضرائب، فهي تحتاج إلى تضحيات جسيمة، لقد حدثنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه عن أولئك النفر الأوائل الذين صدقوا الله ورسوله، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فامتحنوا على طريق الهداية، وأوذوا في الله، وحوصروا ثلاث سنين، لا يبايعهم أحد ولا يهدي إليهم ولا يعطيهم أحد، ويمنعون من دخول الأسواق، ومن ورود المياه العذبة، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، وقد عقدت قريش حلفها على ذلك، وكتبوه في الصحيفة التي علقوها في الكعبة، فيقول: فكنا في الشعب -في شعب أبي طالب - يربط أحدنا على بطنه حجراً من الجوع، فخرجت ذات ليلة فوجدت ثوباً قد علاه العفاء، أي: سفته السوافي، فأخذته فغسلته فقسمته نصفين، فتأزرت بنصفه، وأعطيت نصفه سعد بن مالك وهو سعد بن أبي وقاص فأتزر به، ثم إن سعد بن مالك خرج ذات ليلة لقضاء حاجته، فوقع بوله على شيء فلمسه، فإذا هو جلد فأخذه فغسله وشواه فأكلناه! ولقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار، بعد أن حصل ما حصل من الأذى! ويقول سعد بن أبي وقاص كما في صحيح البخاري: (والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام خبت إذاً وضل سعيي).
إن أولئك النفر قد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية عجيبة، مكثت هذه التربية في مدرستها الأولى ثلاث عشرة سنة، فهذه مدة المدرسة الابتدائية وهي العهد المكي، لكن هذه السنين الثلاث عشرة آتت أكلها، فكل سنة منها جاءت بقرن كامل من الزمن من عمر الأمة، فاستمر عمر دولة الإسلام ثلاثة عشر قرناً على آثار تلك التربية في ثلاث عشرة سنة.
وكذلك فإنهم تربوا تربية مكنتهم من البطولات، فهؤلاء الذين كانوا في هذا الأذى الشديد هم الذين استطاعوا فيما بعد تحمل المشاق، وهم الذين صبروا في المواقف العظيمة، فهذا أبو بكر الصديق الذي نال منه المشركون ما نالوا، وكانوا يقرعونه في كل أمر يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فأكثروا عليه من ذلك، فلما كانت ليلة الإسراء والمعراج لم يكن أبو بكر حاضراً، فأتوه فقالوا: إن صاحبك زعم أنه جيء بدابة فذهب بها إلى الشام ليلته هذه، فدخل بيت المقدس، ثم صعد به إلى السماء فاخترق السماوات السبع! أفتصدقه فيما قال؟ قال: إن كان قالها فقد صدق، هذه هي القوة اليقينية التي استطاع بها أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة.
لينظر كل واحد منكم إلى نفسه لو كان صاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومعه، وكان الوحي أشد ما يكون تتابعاً، والغزو أشد ما يكون كثرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الوضع، ماذا سيحصل له؟ إنها أعظم مصيبة يمكن أن تفكروا فيها، لكن أبا بكر صمد عند هذه المصيبة، فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، إنها التربية العقدية الصحيحة التي تقتضي من الإنسان التمسك بالمبادئ وعدم التنازل عنها في أحلك الظروف.
يقرأ أبو بكر على الناس قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144 - 145] فيثبت الله به هذه الأمة، وقد وصف أنس بن مالك رضي الله عنه حال الصحابة إذ ذاك بقوله: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما ماتوا كانوا كالمعز المطيرة، فلم يستطع أحد منهم الوقوف ولا الكلام إلا أبا بكر.
إن هذا الأثر أثر واضح من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ليكون خليفة عنه، وليسد مسده للأمة.
وكذلك حال عمر بن الخطاب عند موت أبي بكر، يقول ابن عباس كما في الصحيح: عندما مات عمر فحمل على الرقاب جاء رجل من خلفي فوضع يده على منكبي، ثم نظر إليه فقال: رحمك الله، لكثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، فالتفت فإذا هو علي، علي بن أبي طالب يشهد لـ عمر بهذه التربية، وهي الاصطحاب الدائم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيئه به للقيام بهذا الأمر، فكان يهيئ أبا بكر وعمر للخلافة فيصطحبهما في كل الأمر، فيقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وبهذا كان أهلاً لهذه الخلافة، وشهد بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
كذلك فإن أثر هذا بارز حتى في شهادات النبي صلى الله عليه وسلم، حدث أصحابه ذات يوم فقال: (إن بقرة تكلمت، كان صاحبها يسوقها فركبها، فالتفتت إليه فقالت: ما خلقت لهذا، فقالوا: سبحان الله بقرة تكلم! فقال: لكني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر بأنهما يؤمنان بهذا الذي أخبر هو به، ولم يسمع منهما ذلك، فهذا يدلنا على أهمية هذه التربية وأثرها البالغ.
إن هذه التربية كذلك هي التي تجعل الرجال ينتقلون من طور إلى طور، فـ عمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنماً من التمر فيسجد له ويعبده، ثم إذا جاع أكله فصنع صنماً آخر، أصبح يقول للحجر الأسود: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
وكذلك فإن الذين كانوا في الجاهلية الجهلاء انتقلوا إلى هذه المقامات العلية العجيبة، ففي المقام العلمي مثلاً، كانت هذه الأمة أمة لا تحسب ولا تكتب، وكان العرب أشد الشعوب تخلفاً، وبالأخص في مجال الحساب والعلوم العقلية، مع ذلك فما هي إلا سنوات من التربية حتى يخرج علينا علي بن أبي طالب فيقف على المنبر خطيباً فيقول: الحمد الله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فيقول له قائل: هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فيقول: صار ثمنها تسعاً، ويستمر في خطبته.
فسميت هذه المسألة بالمنبرية لدى أهل علم الفرائض، فإن أصل المسألة من أربعٍ وعشرين، وعالة إلى سبع وعشرين، والأصول العائلة ثلاثة فقط، والأصل الثالث من أصول العول هو أصل أربعة وعشرين ولا يعول إلا مرة واحدة وهي عوله إلى سبعة وعشرين كما بين علي في هذه المسألة، لكن السرعة الهائلة في الحساب جعلته لا يفكر ولا يقطع خطبته، ويستمر على نفس القافية التي كان مستمراً عليها في خطبته، فيقول: صار ثمنها تسعاً.
وتجعله كذلك يفكر تفكيراً قليلاً، في أقل أمد الحمل، فيقول: هو ستة أشهر، ويأخذ ذلك من قول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، مع قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] فانتزع عامين من ثلاثين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر، فعامين للفصال وستة أشهر للحمل؛ لأن الله جعل الحمل والفصال ثلاثين شهراً ثم جعل الفصال وحده عامين، أربعة وعشرين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر فهي أقل أمد الحمل.
وكذلك تجعل آخرين ينتقلون من أحضان الأمهات وتربية النساء المدللة، إلى السفارة الإسلامية الشاملة، وقيادة الأمم بكاملها، فهذا مصعب بن عمير كان أحب الأولاد إلى أمه، وكانت تغدق عليه من أموالها، فلما أسلم آذته وحبسته بين أربعة جدران، وكلفت به أشداء من الرجال يضربونه صباحاً ومساءً؛ لعله يرجع عن دينه فامتنع عن ذلك، ومع هذا يخرج من كل ما كان فيه من النعيم، مهاجراً في سبيل الله سفيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقيم أول لبنة من لبنات الدولة الإسلامية، يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة عندما بايعه الأنصار وسألوه أن يرسل معهم إماماً لهم، اختار هذا الشاب الحدث، فأخرجه إماماً للمدينة الجديدة التي هي عاصمة الإسلام، فيخرج وليس معه من الدنيا إلا سيفه وبردته، ويعطيه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء يوم بدر، ويعطيه اللواء يوم أحد، ولما قتل يوم أحد لم يكن عنده من المال إلا بردته تلك وسيفه، فكانوا إذا غطوا رجليه بدا رأسه، وإذا غطوا رأسه بدت رجلاه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه، وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، فخرج ولم يتعجل شيئاً من هذه الدنيا.
وكذلك الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى الملوك، فكانوا في المجال الدبلوماسي خير السفراء، كـ عبد الله بن حذافة بن قيس الذي أرسله إلى كسرى، وكـ دحية بن خليفة الكلبي الذي أرسله إلى هرقل، وكـ عمرو بن العاص الذي أرسله إلى المنذر بن ساوى، وغير هؤلاء من الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق فكانوا خير السفراء لهذه الأمة الإسلامية.